Atwasat

الاستشراق: تراث الشرق في فكر الغرب! (1-5)

سالم الهنداوي الخميس 09 مايو 2024, 06:09 مساء
سالم الهنداوي

عبر التاريخ لا توجد فكرة عارية دون مقاصد واضحة أو خفيّة، وكُل "ظاهرة" فكرية عادةً ما تنشأ من معرفة جديدة تتأسس بواقعها وبما تثيره من أسئلة جوهرية معنيّة بالتأويل.. و"الاستشراق" كان من بين أهم الظواهر الفكرية التي برزت في الغرب منذ مئات السنين مستهدفة الشرق الأقصى والأدنى والأوسط بما فيها الدول العربية بأهداف البحث والاكتشاف في مختلف المجالات الفكرية والاقتصادية والتجارية والثقافية في التراث واللغة والدين والأدب والفنون، ولقد حقّقت غاياتها التي كان لها بالغ التأثير كون "الاستشراق" يعتمد على المعلومة والظاهرة في حياة الشرق بالبحث فيها وكشف قيمتها وحجم تأثيرها، وأهمها المجالات "الثقافية" بمختلف حمولاتها الفكرية.

ويُعتبَر الاستشراق في أحد تعريفاته ظاهرة ثقافية ومعرفية تغذّيها طموحات اكتشاف الإنسان الغربي للشرق، بخاصة الشرق الأوسط، ذلك الكون الجديد الذي سطعت منه شمس حضارة الإسلام، وأنارت بأشعتها ظلمات الجهل في أوروبا قبل النهضة، فصار لهذه الظاهرة كيانٌ قائمٌ بذاته وله مؤسساته وميزانياته.. ويعتبره غيرُ تعريف بأنه اتجاه فكري غربي يقوم بدراسة حضارة الأمم من جوانبها الثقافية والفكرية والدينية والاقتصادية والسياسية كافة، لغرض التأثير فيها،

وقد عرّفه "إدوارد سعيد" في كتابه "الاستشراق" بأنه: "أسلوب غربي للهيمنة على الشرق، وإعادة صياغته وتشكيله وممارسة السلطة عليه".. والاستشراق يمثِّل كل ما تُسَطِّره أقلام غير المسلمين من كتابات وأبحاث سواء في العقيدة والشريعة، والاجتماع والسياسة والفكر والفن والأدب، وكذلك ما يُبث عبر وسائل الإعلام الغربية، سواء بلغاتهم أو باللغة العربية، في الإذاعة وفي التلفزيون وفي الأفلام السينمائية والرسوم المتحرّكة وبرامج القنوات الفضائية وما تنشره الصحف من كتابات وآراء تتناول حياة المسلمين وقضاياهم.

ذﻛﺮ بعض الباحثين أن الاستشراق ﺑﺪأ في اﻟﻐﺮب ﻣﻨﺬ اﻟﻘﺮن اﻟﺴﺎدس ﻗﺒﻞ الميلاد، وذﻟﻚ في ﻋﻬﺪ "اﻟﻜﻨﻌﺎنيين" ﺣﻴﺚ أﻗﺎم اﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮن واﻹﻳﺮاﻧﻴﻮن ﻋﻼﻗﺎت تجارية في ما ﺑﻴﻨﻬﻢ، ﺛﻢ أﺧﺬوا يتوسّعون في هذه اﻟﻌﻼﻗﺎت ﻟﺘﺸﻤﻞ اﻷﻣﻮر اﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ، لكن اختلف الباحثون في بداية وقت ظهور الاستشراق، وتعود صعوبة تحديد الوقت إلى أن الأفكار تسير متغلغلة دون أن تحدَّد بزمن دقيق؛ إذ لا يمكن التحديد إلّا بأمريْن: أحدهما: أن يصرِّح به صاحب الفكرة الأساسي. وثانيهما: أن يتمَّ التحديد في وقت ظهور الفكرة عند انتشارها، وممّا قيل عن تحديد نشأة الاستشراق: إنه ظهر في أيام الدولة الإسلامية في الأندلس حينما وفد إليها كثير من فرنسا وغيرها للتعلُّم.. وقيل أيضاً: إنه ظهر في أيام الصليبيين وحروبهم مع المسلمين في بداية القرن الثامن عشر الميلادي بداية الاستعمار.

وقيل كذلك: إنه ظهر في القرن الثاني الهجري، وأنه نشط في بدايته في بلاد الشام.. وإذا لاحظنا أن الاستشراق هو امتداد للتنصير، فلا يمنع أن يحدَّد ظهوره بالعصور الأولى للدولة الإسلامية، ولهذا أرجعه بعضهم إلى القرن الأول الهجري، إلّا أنه كان على صورة غير نظامية، فهو بدأ يكتمل بوجهه الجديد في القرن الثامن عشر الميلادي، حيث أُنشئت المدارس النظامية، وعُقدت المؤتمرات، وفُتحت المراكز والبعثات والجمعيات والمعاهد، وكان هذا بعد انتهاء الحروب الصليبية، ولا جدال في أن النصارى وقفوا ضد الإسلام من أول ظهوره، وكل رجال الكنيسة من البابوات وزعماء الدول الغربية ينظرون بحقد شديد إلى انتشار الإسلام وقوة المسلمين، حيث رأوا أخيراً أنه لا يمكن وقف المدِّ الإسلامي إلا بغزوه فكرياً مع إبداء الصداقة للعرب وغيرهم من المسلمين، في الوقت الذي يبذلون فيه غاية جهودهم لمقاومة الإسلام، والتصدّي للمسلمين؛ لإطفاء نور الإسلام، وقد ظلَّ هذا التوجُّه للنصارى قائماً في شكل صراع محتدم على طول تاريخ الغرب النصراني والشيوعي على حدٍّ سواء، حيث أدَّى ذلك إلى اختلاف العلماء في تحديد ظهور الاستشراق أول مرة، ولكنه بالتأكيد كان بعد قيام الحرب الصليبية والهزائم التي أُلحقت بالنصارى.

لقد ظهر نظام الاستشراق لأهدافٍ سياسيّة دينيّة تجاريّة اقتصاديّة، وعُني بدراسة الشرق بمختلف المجالات، فكان له مظهر ثقافي وآخر عسكريّ لفرض السيطرة الغربية وتطوير القوة العلمية والعسكرية على حساب التراث الشرقي. وقام بشكل أساس على إظهار الأيديولوجيات الغربية بمخططات استهدفت الشرق الأوسط وآسيا والهند والصين باعتبارها جغرافيا مهد الحضارات، ممّا ساعد على تحقيق أهدافه وهي: تغيير الثقافة الشرقية وإتباعها بالثقافة الغربية في طرق التفكير والإنتاج المعرفي.

يقول الباحث "عبدالقادر الطرنيشي": وُلد الاستشراق بفعل الاهتمامات الكبرى التي أولتها أوروبا لبلدان ما وراء البحار، وأرّخ العُلماء لهذا الاهتمام الغربي بالشرق ببداية الحملة النابليونية على مصر، لكن في إطار اهتمام الغرب بالشرق على العموم فإن البدايات ترجع إلى القرن السادس عشر الميلادي وقبله بكثير، وقد حدّد المؤرّخ الماركسي الفرنسي "مكسيم رودنسون" مولد الاستشراق في الغرب بتاريخ 1779 حيث ظهرت هذه الكلمة لأول مرة بإنجلترا.. وفي القرن التاسع عشر جرت أحداث مهمة "لعِلم الاستشراق" فقد كوّن "محمد علي" دولة مصر، وبدأ يفكِّر في تكوين الدولة الوطنية على طراز الغرب، وأرسل حينها العديد من البعثات الأزهرية إلى فرنسا، وكانت تجربة "محمد علي" عامة على العالم الإسلامي برمّته، وهي الخطوة التي ذهبت إلى غير قصد في أوج حركة الاستشراق واستهدافها منطقة الشرق الأوسط تحديداً باعتبارها الجغرافيا المكانية والدينية التي شهدت ولادة الديانات السماوية وتكوّنت مجتمعاتها على تراث هذه الديانات، فكان من أهداف الحركة التقرُّب من المؤسسات الدينية المؤثرة في الشام ومصر وتركيا وإيران والمغرب العربي بتقديم المساعدات البحثية لها والتعاون الثقافي معها بغية الهيمنة على مشاريعها الدينية واحتواء مضامين نشاطاتها الفكرية بما يحقّق أهداف الحركة، وكان لها ما تريد على مدى عقود من التشكيك في الدين الإسلامي بنشر التزييف بنصوص ومفاهيم العقيدة والشريعة والسيرة النبوية.. وفي تلك الفترة بالذات من "العتمة المعرفية" على بلاد العرب، قبل ظهور الميديا وفضاء الأنترنت، كان المستشرقون يتوافدون على الشرق بمصابيح الغرب فينيرون عقول الشرق، حتى إذا ما غادروا المكان انطفأت تلك العقول في كهوفها.