Atwasat

غزالُ صحراء وغزالاتُ الحارة

جمعة بوكليب الأربعاء 08 مايو 2024, 03:17 مساء
جمعة بوكليب

حين جاءت شركات النفط العالمية إلى ليبيا، في الخمسينيات من القرن الماضي للتنقيب عن النفط، أشرعت الأبواب أمام العمال الليبيين للعمل في مواقعها الصحراوية البعيدة. العديدون، من أبناء المدن، ممن ولدوا وعاشوا في المدن، ولم يروا الصحراء إلا في الأفلام السينمائية، ذهبوا إلى تلك القفار الصحراوية البعيدة والمجهولة والمخيفة، طمعاً فيما كانت تقدمه لهم من أجور عالية. من بينهم، كان جار لنا في المدينة القديمة، لطيف المعشر، يعمل سائقاً لشاحنة كبيرة (بُطاح).

في البداية، كان يغيب عن بيته وأولاده وشارعنا فترات طويلة، حتى نكاد ننساه، ثم يظهر فجأة. وحين نراه يبدو لنا غريباً، وقد صهدت حرارة شمس الصحراء وجهه، فصار داكنا في لون خبزة الطعام، بلحية سوداء كثة، ومنتعلاً في قدميه حذاء صحراوياً ثقيلاً، من تلك التي يرتديها العاملون في حقول النفط، في لون وبر جلود الإبل.

كان كلما عاد من الصحراء، قادماً في إجازة قصيرة، يحضر معه غزالاً صغيراً (جدي). رؤية ذلك الجدي الغزلاني، في أزقة المدينة القديمة، بجسده الضئيل، يسير طليقاً وراءه، مثلما كنّا نفعل صغاراً بخراف عيد الأضحى. كان منظراً لا يمكن نسيانه، وخارج نطاق مألوفنا من معجمنا الحياتي.

وحين أتذكره الآن، أحسّ بالتعاطف والشفقة نحو ذلك الكائن الصحراوي الجميل والغريب، وهو يمشي وراء جارنا مطلوق السراح، يحرك عينيه السوداوين الجميلتين في كل الاتجاهات، ويبدو غريباً ضائعاً في وسط ضجيج ذلك العالم الجدراني الضيق والمزدحم. ليس فقط الإنسان من يشعر بالغربة. غزلان الصحراء أيضاً تشعر بالغربة وتمقتها.

الغزلان والغزالات، من ذوات الأربع، لم تخلق لتعيش في زحام وضيق وضجيج المدن القديمة ورطوبة جدرانها. والمدن القديمة كذلك لم تُبنَ وتشيّد لتعيش بها غزلان وغزالات الصحراء. الغزلان والغزالات بأنواعها، خلقت لتعيش في الصحاري وفي الغابات وفي الجبال وفي السهول والبراري. شوارع وأزقة وحارات المدن القديمة، في ذات الوقت، أبدعت غزلانها وغزالاتها، لذا لم تكن في حاجة لغزلان وغزالات الصحراء. ولعل هذا ما دفع آنذاك بمؤلف أغان شاب، اسمه على السنّي، رحمه الله، إلى كتابة واحدة من أجمل أغانيه، يسأل فيها أهل الحارة عن غزال رآه صدفة في أزقتها وأضاعه، يحمل أمارة في جبينه: «بُوسة خوالي فوق حاجب عينه».

غزالاتُ طرابلس القديمة، تمشي بثقة على أقدام آدمية طرية وناعمة، في أزقة الحارات، وتعرف طريقها جيداً، ولذا لا تشعر بحيرة أو بغربة. وكنَّ يختلفن عن غزلات الصحراء في نوعية جمالهن. كنَّ، استناداً إلى وصف شاعر غنائي آخر، عفيفات ومشيتهن غزلاني.

وكنَّ ذكيّات بشكل ملحوظ، يُجدن بطريقتهن اصطياد الغزلان، يقتحمن قلوب الشباب بنظرات آسرة، وبابتسامات تفلق أعتى صخر، يسرّبنها بغنج أنثوي، لا يخلو من دهاء ومكر، من وراء فتحات أبواب خشبية، أو من فتحات «بمبوك» الفرّاشيات. بعضهن فاقت شهرة جمالهن أسوار المدينة القديمة، واستقطبن عشاقاً وخُطّاباً أثرياء، ممن يقيمون في أحياء راقية. وغِبن عن شوارع وأزقة الحارة، تاركات حسرات تحرق قلوب أولاد الشارع الفقراء.

وبعضهن الآخر، ظللن مترقّبات في بيوتهن، في انتظار أن تزورهن خاطبات. والخاطبات، بطبيعة مهنتهن، لا يتأخرن في العادة. وهن نساء متقدمات في العمر، خبيرات بالغزالات وأنواعهن. يسارعن في خطواتهن متنقّلات بين الأزقة، من حارة إلى حارة، ويطرقن أبواب البيوت، بحثاً عن غزالة مخبأة، و«بوسة خوالي فوق حاجب عينها» يصطدنها.

ما الذي ذكرني بغزالات الحارة، وأعادني فجأة إلى تلك الحقبة البعيدة؟ ولماذا، في هذ المرحلة من العمر، يناوشني، على حين غفلة مني، حنينٌ إلى غزالات الحارة، وإلى لطفهن، وحنانهن، ورقتهن، وغنجهن، وسحرهن؟

لا أعرف سبباً. لكنّي في مساء يوم لندني ربيعي ودافيء، أحسست وكأن يدين خفيتيّن وقويتين، تخطفانني من قعدتي في البيت، وتحملانني في الهواء، وتعبران بي سمواتٍ وبحاراً وأراضيَ وأزماناً، وكأني طائر فوق بساط ريح، وتضعانني في أرض حقبة زمنية، كنتُ أعتقد أنها ذابت متلاشية في ثنايا الوقت.

فرأيتني صبياً، مأخوذا بجمال جدي غزال، أُحضرَ من كثبان صحراء بعيدة، ينظر إليَّ بعينين سوداوين، جميلتين ساحرتين تسكنهما حيرة. ذكرتني بعيني غزالة طرابلسية، تلتحف بغنج بياض فرّاشية، وتمر سريعاً من أمامي في عشية الوسعاية، وتغمز لي بعينها، عارضة عليَّ مرافقتها في جولة قصيرة، على أمل أن نظفر معاً بتذوق قبلة سريعة، نختطفها في سهو زقاق ضيق، وخالٍ من المارّة.