Atwasat

التنظيمات السرية في الجيش الليبي 1952-1969 (17)

سالم الكبتي الأربعاء 08 مايو 2024, 03:12 مساء
سالم الكبتي

.. وظل الجيش يمتليء بالتنظيمات ويعج بها بلا انقطاع. وكان تنظيم الرواد يسابق الزمن والتنظيمات الأخرى ليظفر بالهدف. التنظيمات السابقة ربما تمهلت في مواجهتها للنظام رغم تحفزها للوصول إلى هدفها أيضا. لكن تنظيم الرواد وبعده تنظيم الملازمين الصغار اتخذا من المواجهة واستمرار العمل وتحدي السائد داخل الجيش سبيلا لا يتوقف لإنجاز الحلم الذي يطغى على تفكير أفرادهما. ولعل أسلوب هذين التنظيمين كان يتشابه في بعض طرائقه إلى حد كبير فقد ظهر انحيازهما واهتمامهما بالشأن القومي خاصة بعد نكسة 1967. وإعداد المنشورات وكسب المزيد من الأعضاء والاستعداد لاستخدام العنف تلك الأيام ضد المواقع العسكرية الأجنبية وسفاراتها كما سنلاحظ لاحقا.

أريد أن أقول أن هذين التنظيمين أظهرا، ولو من وراء ستار، تنافسا قويا بينهما بخاصة صيف 1969 ونشطا أكثر من التنظيمات السابقة التي أصابها توقف أو ركود أو يأس، ولاحظ الكثيرون وجود تقارب ومفاتحة بين أعضائهما. فقد حدث أن معمر القذافي الذي يقود خلية الملازمين الصغار التقى مرتين بقائد تنظيم الرواد المقدم المكي بوزيد في بيته.

المرة الأولى كانت بحضور القذافي ومصطفى الخروبي والثانية بحضور عبد المنعم الهوني الذي روى لي شخصيا بأن المكي أشار إلى أن تنظيمه يعمل على مهل وربما يحتاج إلى فترة عشر سنوات لتنفيذ التغيير المتوقع. لم يعجب ذلك معمر وعند خروجنا، كما ذكر لي الهوني، أشار بغضب إلى أن أمثال هؤلاء لا يؤمل منهم خيرٌ وعندما ننجح في الوصول إلى السلطة فإنهم يستحقون الإعدام وينبغي أن لا نتواصل معهم على الإطلاق!

ربما استخدم المكي تكتيكا معينا هنا ولم يفاتح به عضوي التنظيم وتمويها لهما أشار إلى أن عمله أو تنظيمه يحتاج إلى فترة طويلة قادمة. هذه المفاتحات والصراحة التي سادت واقع الجيش ذلك الصيف لم يلاحظ كثيرا في تنظيمات أخرى سابقة. كان ثمة جرأة في الاتصال بالرتب الكبيرة ومناقشتها في أمر خطير يتعلق بقلب النظام وتغييره. لم يتأخر القذافي في ذلك في كل الأوقات. كانت الطرق مفتوحة أمامه بهذا الشكل دون أية عوائق. فها هو يفاتح معلمه في الكلية العسكرية المقدم المكي وهو في ذات اللحظة يعتبر من ضباط صنف الهندسة المسؤولين عن الضابط عبد المنعم الهوني الذي يضمه الصنف نفسه في معسكر قاريونس الذي حضر اللقاء.

وقبل هذا كله عبر هذه الطرق التقى القذافي السنوسي الاطيوش رئيس الأركان السابق في بيته بواسطة صهره عضو التنظيم امحمد المقريف وبحضور بعض الضباط من التنظيم ذاته والزعيم جبريل صالح الذي نقل ما يدور في تفكير هؤلاء الملازمين إلى قريبه رجل الأمن العقيد يونس بلقاسم الذي ذكر ذلك صراحة خلال شهادته أمام محكمة الشعب التي رأسها الرائد بشير هوادي حين نظرت في قضية ملاحقة تنظيم الضباط الأحرار صيف 1974. وكذا ضباط آخرين أعلى رتبة ضمهم إلى التنظيم وتحركوا يوم الأول من سبتمبر منهم على سبيل المثال المقدم موسى أحمد والمقدم آدم الحواز خريجا الدفعة الأولى من الكلية العسكرية عام 1959 والرائد فرج سليمان الحضيري خريج الدفعة الرابعة عام 1962 والرائد علي الفيتوري خليفة خريج الدفعة الخامسة عام 1963 وغير ذلك كثير من الأمثلة والشواهد إضافة إلى العديد من أفراد الأمن والمباحث مثل سالم الشيخي والسنوسي الوزري ومجموعات من النشطاء المدنيين.

هذا كله يبين مدى الفراغ الحاصل في البلاد تلك الأيام سياسيا وأمنيا وعسكريا وحمل معه صراعا مكتوما بدأ يظهر على السطح داخل الجيش وفضحته الأحداث المقبلة من وراء الأفق.

وفي جانب آخر ظل ضابط الاستخبارات وعضو تنظيم الرواد خليل جعفر على صلة وثيقة بصورة خاصة وقوية، حسب روايته، بالقذافي والخروبي ولعله نصحهما بالانتباه والعمل (تحت الأرض) حتى لا ينكشف أمر تنظيمهما. وإضافة إلى ذلك وتعزيزا منه لهذه العلاقة والثقة فقد قدم لهما صديقه الناصري عبد الوهاب الزنتاني الضابط بالجوازات وعرفهما به.

كان جعفر من أنشط أعضاء تنظيم الرواد لحماس لديه يحثه على المشاركة في أي عمل من شأنه إعادة الاعتبار إلى الوطن والأمة المكلومة فقد كان ناصريا ويحب عبد الناصر ويعتبره زعيما عظيما تلاشت الأمة العربية بموته ولم تحقق شيئا في غيابه. كان يؤمن بالقومية العربية وعلى هذا وقع حراكه خلال شبابه ثم عبر عمله العسكري باعتباره ضمن التيار القومي في ليبيا. وبمرور الأعوام ومع هذا الحماس كما يردد رأى وهو رجل الاستخبارات أن ثمة فسادا في الجيش يمثله العقيد عبد العزيز الشلحي الذي جهز قائمة لإبعاد ضباط منهم خليل جعفر ومجموعة من ضباط مدرسة الزاوية. وأن العقيد الشلحي شرع ومجموعته في قيادة الجيش في إعادة تنظيم الجيش وفق هواه وطموحه وأطماعه، على حد رأيه الذي أكده بأنه كان يهيء نفسه ومجموعته من كبار الضباط للانقلاب والانقضاض على السلطة ورأى أيضا أن الملك اعتراه زهد في الحكم وترك الحبل على الغارب. ووفقا لتقييمه أيضا للعقيد الشلحي أشار إلى أنه وعائلته كانوا يكرهون ولي العهد ويضمرون له السوء.

في غمرة هذا الحماس القومي ظل جعفر يوالي اهتمامه بالتحرك، فمثلا ذكر لي ضمن حديثه عام 2010 بأنه أوفد عام 1963 في دورة تتعلق بالاستخبارات في بريطانيا وعقد صلة مع أحد ضباط التدريب وهو من رجال الاستخبارات الإنجليز المشهورين الذي فاتحه في أن يقوم بالترجمة معه لمجموعة من العسكريين اليمنيين في نفس الدورة يتبعون قوات الإمام البدر.

كانت حرب اليمن على أشدها. استهوته الفرصة. التقاهم وترجم لهم. كانت هناك جهود تبذل لتسليمهم أسلحة حديثة ومتطورة. ظلت الكاتلوجات معه في حجرته. مضى بها سريعا وبطريقة سرية إلى الملحق العسكري المصري في لندن بواسطة ابن الملحق الذي تعرف عليه وكان يدرس التجارة والاقتصاد هناك والواسطة بينهما كان الضابط محمد الفقي أحد ضباط الدفعة الأولى في بنغازي عام 1959 وكان في رحلة علاج على حساب الجيش.

أشار جعفر إلى أنه التقى الملحق وسلمه الأوراق وأفشل مساعي ونوايا الاستخبارات البريطانية لتجنيد أولئك الشباب من اليمن المغرر بهم. وفي حراكه أيضا في الداخل تحرك، وفقا لروايته، مع بشير المغيربي وعبد القادر غوقة وأعد معهما خطة للقيام بتفجيرات في بنغازي تستهدف مواقع أجنبية.

أحضر قنابل بطريقته الخاصة وذكر أنهم قاموا بإلقاء واحدة منها في السفارة البريطانية الواقعة أمام الإذاعة في شارع أدريان بلت وفي معسكر الدوقادوستا (الفويهات). وأكد أنهم أبلغوا عبد الناصر بالتنظيم والرغبة في التغيير، لكنه رد عليهم من خلال عبد القادر غوقة وكان عضوا في التنظيم الطليعي السري الناصري بالتريث والانتظار ولا نعمل بهذه الطريقة فالظروف، على حد رأي عبد الناصر، غير مواتية والوضع إجمالا غير مناسب، فيما ذكر جعفر في رواياته التاريخية المهمة، أن ثمة تنسيقا كان مع (الجزائر) بعلم من مصر ومع منظمة فتح من خلال قيادتها في بنغازي وكان الرابط في هذه العلاقة عضو المنظمة أحمد عبد الغفور. أشار جعفر أيضا إلى أنه أسهم في جمع التبرعات والمساعدات للمنظمة أيامها من العسكريين والمدنيين وأكد على أن القذافي والخروبي كانا، بتنسيق معه، يجمعان التبرعات لصالح (القضية) من الجنود وغيرهم.

ثم كان المنشور الشهير في يوليو 1969 أعده مع عبد الوهاب الزنتاني وابن خالته عبد السلام بوشريدة. كان يعمل في شركة كات اليونانية. المنشور اشتهر بعبارة (إبليس ولا إدريس) طبعه بوشريدة في الشركة. خليل كتب الجانب المتصل بفساد الجيش وظروف إعادة تنظيمه.

وزع المنشور بطريقة مذهلة وسريعة. أكد أنهم لم يكونوا في الواقع ضد الملك من خلال المنشور ولم يسعوا للإساءة إليه. كانوا ضد الشلحي ومجموعته في الجيش وخارجه.

فماذا يقول عبد الوهاب الزنتاني عن المنشور الذي وصفه بأنه كان سببا في (قصم ظهر البعير)!
.. ثم ماذا بعد ذلك إلى اليوم الرابع من أغسطس؟