Atwasat

إرهاب القوانين في شريعة الغاب

سالم العوكلي الثلاثاء 07 مايو 2024, 02:34 مساء
سالم العوكلي

احتكار سن القوانين، واحتكار قاموس تعريف المصطلحات الخطيرة، واحتكار هندسة القيم الإنسانية وفق تفسير مهيمن، ظاهرةٌ بدأت تبرز جلياً لدى الدول الغربية ذات الماضي الاستعماري، التي ما زالت تحاول تمديد هذا الماضي بأساليب أخرى تنبع من صميم العقل الكولينالي، مثل مفهوم الإرهاب الذي لا يحق سوى للغرب البت فيه، أو قانون معاداة السامية المعبر عن عقدة الذنب الأوروبية تجاه اليهود الذين لم ينكل بهم ببشاعة إلا في أوروبا المسيحية حيث تأسس هذا الضرب من الكراهية. يضاف إلى هذا الاحتكار قانون ما يسمى «تمجيد الإرهاب» الذي تحول إلى تهمة تطال كل من ينتقد الكيان الصهيوني، أو يحتج على الإبادة الجماعية التي يرتكبها في فلسطين.

تواجه رئيسة الكتلة البرلمانية في حزب «فرنسا الأبية» ماتيلد بانو، والمرشحة من الحزب للانتخابات الأوروبية ريما حسن، هذا القانون، حيث استدعت الشرطة كلتيهما للتحقيق معهما بتهمة تمجيد الإرهاب بعد نشر بيان وازن بين هجوم حماس باعتباره «هجوماً مسلّحاً لقوّات فلسطينية» و«تشديد سياسة الاحتلال الإسرائيلي» في الأراضي الفلسطينية.

وتحت عنوان قانون من كلمتين لعوبتين تتهاوي كل القيم الجمهورية التي أُرسيت خلال خمس جمهوريات، وهو قانون مقتبس عن أدبيات حركة «معادو الألمان» التي انطلقت من تجريم تمجيد النازية وصولاً إلى تجريم أي حديث إيجابي عن الإسلام أو المسلمين، وهي حركة انبثقت عن مظاهرة قادتها نخب يهودية ضد توحيد شطري ألمانيا، وأساس توجهها التضامن غير المشروط مع إسرائيل، ومعاداة كل من يعارض الصهيونية. ونتيجة هذا التحليل لمعاداة السامية، فإن دعم إسرائيل ومعارضة معاداة الصهيونية هما عاملا توحيد أساسي للحركة المعادية لألمانيا.

غالبا ما يتم الاستشهاد بالنظرية النقدية لثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر من قِبل المُنظرين المناهضين للقومية الألمانية، كما يوضحها الشاعر والمفكر إبراهام ملتسر في كتابه «صنع معاداة السامية أو تحريم نقد إسرائيل»، ترجمة سمية خضر.
يضيف ملتسر: «تشتهر حركة معادو الألمانية بترويجها المباشر لحرب لا هوادة فيها ضد الإسلام، ويعتقدون أن هذا الصراع ضدهم يجب أن يقاد عسكرياً بشكل خاص. كما أنه ليس هناك أمل على المدى المنظور في التطورات ـ مثل ثورات الربيع العربي ــ لتحسين مسارات الصراع في الشرق الأوسط وتغييرها، ويقدمون لهذا مبررات فلسفية معقدة ومجردة»، وهم في مواجهة اليمين الألماني، الذي يعتبرونه فاشية جديدة، يبنون مشروعهم على الانحياز الكامل لليمين الفاشي الحاكم في إسرائيل، باعتبار ضحاياه يقعون خارج مساحة قانون تجريم معاداة السامية، أو كما وصفهم وزير الدفاع الإسرائيلي المنتمي إلى هذه الحركة بـ«الحيوانات البشرية».

ويقر ملتسر بأن: «التضامن البنيوي مع إسرائيل بالنسبة إلى كثيرين من تيار معاداة الألمانية يعني الدعم الكامل للتدابير السياسية والعسكرية الملموسة للحكومات الإسرائيلية المعنية. هكذا يمكن أن نقرأ بحسب ما جاء في أحد نصوصهم النموذجية أن إسرائيل «باعتبارها ضحية للعدوان المستمر من المنظمات الفلسطينية» لها الحق في اتخاذ تدابير التحكم والسيطرة وبناء الحواجز في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأيضا حينما يتم اللجوء إلى القتل المستهدف. من هنا سيكون انتقاد إسرائيل بمثابة الموافقة على تدميرها.. لماذا؟ لأنها، والرأي لهذا التيار، دائما ما تجد نفسها في حال الضرورة».

وهذه الحركة العنصرية بتعبيرها عن عقدة الذنب الألمانية، وبتأييدها المطلق ودون شرط للصهيونية، تتمتع بحماية على الرغم من تصريحاتها الإرهابية المحرضة على الكراهية ضد العرب والمسلمين، والداعية إلى العنف تجاههم، وهي كحركة ـ تمثل مقلوب النازية ـ تلهم الساسة الألمان في موقفهم من الصراع في الشرق الأوسط عموماً، ومن حرب الإبادة الجارية الآن في غزة خصوصاً، مما جعل نيكاراجوا ترفع دعوى ضد ألمانيا في محكمة العدل الدولية، تقر فيها بعدم اتخاذ إجراءات طارئة لوقف صادرات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل، ورُفضت هذه الدعوى بحجة عدم الاختصاص.

أما عن تاريخ صناعة معاداة السامية المنبثقة في الأساس عن أوروبا المسيحية، فيقول إبراهام ملتسر: «الحقيقة أن كراهية اليهود بهذا الشكل كراهية قديمة جداً، أساسها كره الكنيسة لهم، إذ تشكل اليهودية خصماً لها. ففي حين أن المسيحية خرجت من اليهودية، أدت خيبة أمل الكنيسة في تحول جميع اليهود إليها، وأن يتخلوا عن دينهم اليهودي الذي كانت المسيحية تعده أكبر خطر على فكرة الخلاص لديها، إلى هذه الكراهية». وهنا نشير إلى أن اليهودي كان يمكن أن يتخلص من وصمة العار التي كانت تلاحقه بأن يغير دينه ويعتنق المسيحية، وهذا ما وصفه هاينرش هاينه بأنه تذكرة دخول الثقافة الأوروبية.

ومع ظهور «النظرية العرقية» في منتصف القرن التاسع عشر، بدأ الأوروبيون في إدانة اليهود، لأسباب تتعلق بأصولهم العرقية، والدخول إلى هذه الثقافة يعني الاندماج الذي قاومه أغلب اليهود المؤمنين بحماية الجيتوات والأسوار ثقافتهم. غير أنه حتى اليهودي الذي اعتنق المسيحية من أجل التخلص من هذه الوصمة أصبح السؤال عن دينه السابق يلاحقه في أوروبا المسيحية، إذ يذكر ملتسر نكتة رائجة -آنذاك- تقول «إن يهودياً، اسمه موشيه، اعتنق المسيحية، وأصبح كاثوليكياً. وبعد بضعة أسابيع تحول مرة أخرى، وأصبح بروتستانتياً، وحين سأله أصدقاؤه لماذا اعتنقت البروتستانية بعد أن اعتنقت الكاثوليكية؟ أجابهم: من أجل إذا ما سألني شخص عن ديني السابق أجيبه كنت كاثوليكياً».

معاداة السامية صناعة أوروبية خالصة، والآن يستخدمها الساسة الأوروبيون والتيارات المناصرة للصهيونية وكل ممثلي الإسلاموفوبيا تهمة موجهة بالأساس ضد هذه الأمة التي هي من احتضنت اليهود بعد هروبهم من محاكم التفتيش والمجازر الأوروبية التي ارتكبت ضدهم، ويستخدمونها ضد كل من ينتقد جرائم هذا الكيان العنصري أو «يمجد المقاومة» التي هي مثل عقيدة المقاومة الفرنسية التي قادها ديغول ضد النازية، مثلها تماماً.

إبراهام ملتسر، مؤلف الكتاب المهم الذي ذكرتُه، ساميٌّ إسرائيلي مقيم في ألمانيا، درس وتدرب في الجيش بإسرائيل، ولكنه غادرها، وأصبح ناقداً لأساليبها الفاشية مثلما كان ناقداً للنازية كغيره من المثقفين وأصحاب الضمائر الذين نزحوا من إسرائيل إلى أوطانهم الأصلية في أوروبا بعد شعورهم بالخجل مما تفعله دولتهم التي تذكرهم بما فعله الرايخ ضدهم أو ضد آبائهم، بالإضافة إلى أن العديد من المظاهرات في العالم، وفي أعرق الجامعات، يحركها ويشارك فيها طلاب ساميون يهود متضامنون مع الحق الفلسطيني، والعرب ساميون، واللغة العربية إحدى اللغات السامية، لذلك فمصطلح «معاداة السامية» مصطلح مضلل وخبيث*، وكل ما نتج عنه يقع في دائرة التضليل والضلال، مثلما أن تسمية «معادو الألمان» مضللة، لأنها تخلط بين الألمان والنازية.

ومن المفترض تعديل القانون حسب سريانه الحالي إلى «معاداة الصهيونية»، كي يكون متسقاً مع تطبيقاته، وحينها لن نستغرب أن تخرج قوانين شبيهة على غرار معاداة الصهيونية تتعلق بتحريم معاداة الفاشية أو معاداة النازية أو معاداة الإمبريالية، خصوصا مع انتعاش اليمين القومي المتطرف في معظم دول الغرب، ونكون قد اتفقنا ـ على الأقل ـ مبدئياً على المفاهيم لنختلف حول أخلاقيتها.

وعبر سلسلة من الأكاذيب والتشويه وعُقد التكفير عن الذنب الأوروبي المسيحي نصل الآن إلى ما وصلنا إليه في غزة التي يُقتل فيها عشرات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ، ويهدم في هذه المساحة الصغيرة من مبان خلال بضعة أشهر أضعاف أضعاف ما هُدم في أوكرانيا من مبان خلال سنتين من حرب تستخدم فيها كل الأسلحة الفتاكة، ويحدث هذا أمام صمت من نكلوا باليهود عبر التاريخ، وبدعم من ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، أمريكا وبريطانيا وفرنسا، تتمتع بحق الفيتو الذي أصبح يشكل الذراع السياسية والعسكرية لحماية الكيان الصهيوني والتغطية على جرائمه، وهي الدول التي ظلت تردد شعاراتها عن العدالة وحقوق الإنسان والسلام، وتتخذها ذريعة للتدخل في أي جزء في العالم أو فرض العقوبات، لكنها سرعان ما تسقط عند كل محك حقيقي أو امتحان تتعرض له.

من هذا المنطلق، وبشكل منطقي وأخلاقي، من المفترض أن الدول المتعاطقة مع عدالة القضية الفلسطينية، والدول العربية خصوصا أو ما تبقى منها، أن تسن قوانين تخصها تعتبر التضامن مع إسرائيل «تمجيداً للإرهاب»، وماذا يعني الإرهاب إن لم يكن يعني قتل عشرات الألوف من الأبرياء خلال أشهر محدودة في أكبر حملة تطهير عرقي يشهدها العصر الحديث، وقصف المستشفيات والمدارس وفرق الإغاثة ومقرات الأمم المتحدة!؟ وماذا يعني الإرهاب إن لم يكن العثور اليومي على مقابر جماعية في حدائق المستشفيات واستخراج مئات الجثث التي تعرضت إلى التعذيب قبل إعدامها، ومعظمهم كانوا مصابين أو مرضى في هذه المستشفيات!؟ هل ثمة تعريف آخر للإرهاب في أقصى درجات عنفه وتطرفه؟

كما أنه من المفترض والوجيه والأخلاقي أن تعقد الجامعة العربية أو ما تبقى منها اجتماعا، تتخذ فيه قرارات، ولو للحفاظ على ماء الوجه، مثل تصنيف حزب الليكود والأحزاب الحريدية المتطرفة المتحالفة معه ضمن قائمة الإرهاب، وفرض عقوبات على مسؤولين إسرائيليين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في غزة. أما تهمة تمجيد الإرهاب فهي تهمة تطال فرنسيين تضامنوا مع فلسطين، وتطبقها حكومة داعمة للإرهاب الذي يمثله كيان بنى دولته من خلال المجازر والمقابر الجماعية والاغتيالات والتطهير العرقي.

* في أثناء كتابة هذا المقالة صوّتَ مجلس النواب الأمريكي لمصلحة توسيع التعريف المعتمد في وزارة التعليم لمصطلح «معاداة السامية»، مما سوف يُشرِّع لقمع المظاهرات المحتجة على إبادة الفلسطينيين في الجامعات الأمريكية