Atwasat

ثقل الكائن الذي لا يُحتمل

سالم العوكلي الأربعاء 07 فبراير 2024, 12:26 صباحا
سالم العوكلي

ثمة قول دارج في لهجتنا مفاده «تبي الحق وإلا اللي يالاه؟!» ورغم نبرة السؤال التخييري إلا أن ما نمكث فيه هو اللي يالا الحق إذا ما اعتبرنا الحق في لهجتنا مقصودًا به الحقيقة، وأنجذب إلى هذا القول رغم أني لم أعرف حتى الآن ما هو الذي (يالا الحق) أو بجانبه أو تاليه. هل هو المناقض له بمعنى الباطل؟ أم أن المقصود حقيقة غائمة ومشوشة؟. ولأن الحق أو الحقيقة ليس في المتناول، فإن حياتنا وتأملاتنا وتوقعاتنا ستقع كلها في «اللي يالاه»، بمعنى الحقيقة ناقصة أو مبتورة أو متغيرة باستمرار، أو إذا ما افترضنا المعنى اللغوي لجملة (يالاه) هو (يليه) التي تعني (ما بعده) فيمكن أن نصل إلى مفهوم فلسفي شائع تحت مسمى (ما بعد الحقيقة)، وهذا هو أس الفلسفة الريبوية، وأحد مرتكزات خطاب ما بعد الحداثة.
غير أنه في جميع الأحوال عادة ما تكون افتراضاتنا ثقيلة الوزن وفوق ما يحتمل الكائن الإنساني، ونحن نعتقد أننا قبضنا على الحق أو الحقيقة، فنكتب التاريخ وننقيه من كل الشوائب، نحيله إلى تاريخ افتراضي مثالي أبطاله نموذجيون، وبعد ذلك تأتي أجيال تُصدِّق هذه الرواية، فتحن إلى هذه الصيغة الافتراضية المبهرة من التاريخ التي لم تحدث في الواقع. إنها صيغة منقاة مقطرة مفترضة، ويؤدي هذا الحنين إلى نوع من الانتكاسة إلى ماضٍ يجعل الزمن الجميل كله خلفنا، فنلتفت إليه بقوة ونكف عن التحديق في لحظتنا أو في المستقبل، وندعو الناس، وأحيانًا نرغمهم، على تقليد زمن لم يحدث في المكان إطلاقًا، ومحاكاة أشخاص لم يوجَدوا في الواقع، لأنه زمن أعدنا تدويره ونقّحنا سرده حتى أصبح المثال الذي لن تصبح دنيانا وآخرتنا بدونه ممكنة، وفي النهاية مثلما عثنا خرابًا في ماضينا سنعيث خرابًا في حياتنا ومستقبلنا. عن هذا الحنين إلى المثال الأعلى المتخيَّل تظهر الحركات النكوصية المتطرفة التي تحاول أن تستلهم سردية في التاريخ تحولت إلى أسطورة، وتجربة بشر متخيلَين حققوا هذا التاريخ، بعد أن أُجريتْ على قصصهم عمليات تجميل وتنقيح جعلتهم يقتربون من هالة الملائكة، ومع فكرة السلف المؤسطر نفقد الثقة في كل خلف لا يقلد هؤلاء الأسلاف المفترضين حتى في طريقة لباسهم الموصوفة.

ثمة نوع آخر من الافتراض يجعلنا في اللحظة الراهنة نتخيل صورة لأصدقائنا أو أقاربنا أو محيطنا لا تحتملها الطبيعة الإنسانية، ونملي شروطًا، غالبًا لا نطبقها على أنفسنا، لأننا نعيش في واقع افتراضي بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وللمفارقة، أنه، رغم وصْفِنا للفضاء السيبراني على أنه عالم افتراضي، سيكون الأكثر تمثيلًا لحقيقتنا من الواقع الحياتي الذي تغلب عليه الأقنعة وتقنيات التمويه. من خلال هذا الواقع السيبراني تكشَّفَ لنا الكثير مما كان متواريًا في سريرة مجتمعنا، لدرجة أن المنصات الاجتماعية؛ بما فيها من إدراجات وتعليقات وغيرها، أصبحت تشكل قاعدة بيانات عريضة يمكن من خلالها دراسة القيم والميول الغالبة لدى المجتمع، لأنه غالبًا ما تختفي الأقنعة في ساتر هذا الفضاء الرقمي الذي يعفينا من الملاسنة والتواجه مباشرة، ويعطينا فرصة لنُظهر عبر الكتابة عن بعد وليس التشافه ما كنا نخبئه، باعتبار الفارق التقني في التعبير بين ما نقوله شفاهةً وما نكتبه.

ثمة مَثَل شعبي آخر شائع، نصه: «اللي تشكره عقبله قرعته من القريضة»، بمعنى، من تمدحه اتركْ له نصيبًا من القدْح. هذه النسبية في إلقاء الأحكام تعكس جوهر الكائن الإنساني، وكثير من الأمثلة الشعبية التي توقفتُ عندها، تختزل النسبية الأخلاقية في كوغيتو ألّفَتْه التجربةُ الإنسانية الطويلة بمنأى عن التفكير الرغبوي، عن العالم ملموسًا وليس محدوسًا، مجرّبًا وليس مغرّبًا، وربما الركون إلى مثل هذه الاستنتاجات من الخبرة، ما يجعلنا أكثر تسامحًا وقدرة على التعايش، لأن التعصب بمفهومه الواسع ينتج غالبًا عن الافتراضات الخاطئة، وكثيرًا ما تتأزم العلاقات الإنسانية وتتصدع بسبب هذه الافتراضات التي فوق حِمْل الإنسان، والتي من خلالها ننشيء شروطًا نظرية من الصعب تحققها، ويحدث هذا في علاقات الصداقة أو الحب أو العمل المشترك أو تبادل المسؤوليات أو غيرها.

تأتي الأحزان والصدمات وتكسر القلوب لأن توقعات وافتراضات البشر حيال بعضهم البعض مرتفعة، ولذلك من الشائع أن يتحدث الكثيرون عن صدمات تلقّوها من أقرب الناس إليهم، أو من كانوا يراهنون عليهم معتقدين أن مثل هذه العلاقات يجب أن تكون مثالية وخارج دائرة المصالح، وحسب ظني لا توجد خيارات أو علاقات بمنأى عن المصالح، فحين نختار صديقًا أو رفيقًا نفترض أنه مَرِح وطيب وكريم وشهم ومخلص، فلأن لنا مصالح في هذه السجايا نفسها، وحين نختار زوجةً أو زوجًا لأسباب تتعلق بالجمال أو خفة الدم أو المركز الاجتماعي أو القدرة المالية أو السخاء، فلأن في مثل هذه الميزات تكمن مصالح لنا، وهي متطلبات نبالغ فيها كثيرًا بما لا تحتمله طبيعة الإنسان غالبًا، فنتخيل مثالًا مطلقا تتحقق من خلاله مصالحنا، وننشيء صيغة نموذجية مفترضة لما يجب أن يكون عليه أصدقاؤنا وجيراننا، ولأننا بَالغنا فسوف لن يلبي الطرف الآخر الصورة المرسومة بدقة في مخيلتنا، ويتحول الغزل والانبهار والفرح بالعلاقة إلى صدمة (كثير من الإدراجات تتحدث عن مثل هذه الصدمات والخيبات) وما يحدث أن المرء الذي تَشكلَ وجدانه عبر هذه الافتراضات سيعتبر كل الآخرين غير جديرين بعواطفه وكأنه الناجي الوحيد من هذا الشواش العاطفي، وبسرعة أيضًا تنتقل الشكوى من قسوة المحيط عمومًا إلى وسواس المؤامرة، وسيحس هذا الإنسان المثالي في اعتقاده أن الجميع يتآمر عليه (وينعكس هذا جليًا في الكثير من الشعر وكلمات أغانينا، حيث الآخرون حسادٌ أو عذال أو كارهون بالضرورة). ولأننا بهذه النرجسية المعلنة أو المخفية، الواعية أو المتحققة في اللاوعي، نرغب في تحقيق ما اتفق البشر على تسميته الفضيلة، فسنكون متطلبين جدًا حيال الفضائل التي يجب أن يتحلى بها شركاؤنا، حيث هنا تصبح الذات خارج التقييم وهي المركز الذي يجب أن يدور حوله المحيطون بنا مثلما تدور الكواكب حول الكينونة المشعة.

المفارق في الأمر أن ثمة فصامًا أخلاقيًا كامنًا فينا يجعلنا نحب أحيانًا، وإن كان بشكل غالبًا غير معلن، مَن ينتهكون هذه الفضائل، وهذا الفصام أو الارتباك يطرح سؤالًا مهمًا: لماذا يَلقَى أناس مشاهير انتهكوا كل الفضائل المتفق عليها إعجابًا وحبًا عارمًا رغم أنهم لا يُوفُون أقل قدر من هذا المعيار الذي نطبقه على أقرب الناس إلينا؟. وسبق أن كتبت مقالة عما تلقاه، مثلًا، مارادونا وديانا، من حب في كل أصقاع الأرض رغم أنهما انتهكا علنًا عديد الفضائل التي من خلالها نختار شركاءنا، وحاولتُ الإجابة عن هذا السؤال بتخميني أنه «في كلتا الحالتين، الجمال المتمرد ما يقف مواجهًا بشعريته لعالم المواصفات والمراتب الأبدية. هو العشق للحياة والتجربة حين تكون سردًا جماليًا للجسد الناتيء عن الكتلة، ونقدًا عبقريًا لحضارة مرعبة تتأسس على وجهة نظر واحدة لمصير الإنسان.. الخوف على شيطنة الفن، على الشعر، على جمال العصيان، وعلى نزق العبقرية، والعشق أيضًا، ما جذب ذلك الزحام والعيون الحزينة إلى تراجيديا (ديانا ـ مارادونا) سارقَي النار من قبضة الآلهة»1.

تقول جنيفر ماتي في بحثها الشائق بعنوان (إدراك الفضيلة) وهي تضرب مثلًا مخالفًا عن الإعجاب بشخصيات إشكالية: «وأوّل ما تجب الإشارة إليه بخصوص هذا المثل المخالف هو أنه مؤسّس على المقدمة الكاذبة أننا حين نعجب بمثل هذه الشخصيات فإنما نعجب بها بسبب رذائلها الأخلاقية (على الرّغم من أني أسلّم بأننا قد نعجب بها في بعض الحالات بسبب رذائلها). ومن أمثلة الشخصيات التي تناسب بسهولة هذا المثل جيمس دين، وإلفيس بريسلي، ومحمد علي. وحين نفكّر في متمرّدين جذّابين لن نفكّر في أناس من أمثال تد بندي أو جوزيف ستالين، الذين يرجّح أن يعدّوا أوغادًا. والفرق الواضح بين هاتين المجموعتين هو أنه في حين أن أعضاء الأولى دأبوا على اختراق قواعد معيارية اجتماعية، فإن أعضاء المجموعة الثانية لم يقتصروا على اختراق اعتقادات أصيلة، غير خلافية، وتعدّ أخلاقية حول الصواب والخطأ. إننا نعجب بمن يتحدّى العرف الاجتماعي، خصوصًا حين تحول أو تعرقل هذه الأعراف تقدّما أخلاقيًا حقيقيًا. ويبدو أن تحدّي الأعراف الاجتماعية يوظّف فضائل كالشجاعة، والأصالة، والانفتاحية الذهنية. وهذه السجابا وليس الرذائل الأخلاقية، فيما أقدّر، هي التي تجعلنا ننجذب إلى من ينتهكون القواعد السلوكية الاجتماعية»2.

وفي المجمل، سعى الإنسان منذ بداية وعيه بذاته وبالمحيط إلى الكمال والمثال، وهذا السعي هو سر ترقيه الأخلاقي المستمر، وحافزُ عمله الدؤوب على سَنِّ تشريعات وقوانين قد تصل به إلى هذه الغاية، بدايةً من إنسان الأساطير الأولى الذي وصل إلى تخوم الآلهة، وصولًا إلى إنسان نيتشة أو (ما بعد الإنسان) الذي سينتهي مع ظهوره التاريخ. غير أنه حين نتوهم أننا وصلنا إلى هذه الغاية أو أدرجنا هذه الأسطورة في التاريخ، فسوف تبدأ كل الرذائل في الظهور، بداية من الغرور الفردي وجنون العظمة، وصولًا إلى الفاشيات التي أبادت مجتمعات برمتها بحجة أوهام مثل العِرق النقي، أو الإنسان المتفوق، أو شعب الله المختار، أو خير أمة.

1 ـ سالم العوكلي «ديانا ومارادونا وذكرى الربيع العربي» بوابة الوسط. 29 أبريل 2018.
2 ـ جنيفر ماتي «إبستيمولوجيا الإدراك غير البصري». تحرير: بيرت بروغارد وديمتريا إلكترا غاتزيا. ترجمة: نجيب الحصادي، قيد الطبع.