Atwasat

العام الثاني والسبعون

جمعة بوكليب الأربعاء 03 يناير 2024, 06:19 مساء
جمعة بوكليب

تؤكد مصادر غير، معروفة لي، ولا موثوقة في ذات الوقت، أن الليبيين أطلقوا على العام 1951 اسم عام الشرّ، كونه عاماً انحجب فيه المطر، وجاع فيه الناس والحيوان والطير. في الأسبوع الأخير، من عام الشرّ ذاك، ظهرت على خريطة العالم دولة جديدة اسمها المملكة الليبية المتحدة. نفس المصادر، غير المعروفة ليي وغير الموثوقة، قالت أن العام التالي 1952، عام ولادتي أيضاً، عرف باسم عام الصابة، إذ هطل فيه المطر بغزارة، وشبع الناس والحيوان والطير. وهذا يعني أن الدولة الليبية الجديدة كانت فأل خير على الليبيين، وجاءتهم بالمطر والشبع.

في الأسبوع الأخير، من الشهر الأخير من العام 1951، تقلصت المساحات الجغرافية بشكل غير مسبوق، وللمرة الأولى، بين قصرين مشهورين، في مدينتين ليبيتين، واحد في شرق البلاد، وآخر في غربها، تفصلهما مسافة 1000 كيلومتر.

القصر الواقع في شرق البلاد، تموضع في مدينة بنغازي، أطلق عليه اسم قصر المنار. والآخر في غربها، تموضع في مدينة طرابلس الغرب، حمل اسم قصر الخلد العامر. وفي شرفة قصر المنار ببنغازي، يوم 24 ديسمبر 1951، وقف المرحوم الملك محمد إدريس المهدي السنوسي، يعلن إلى الشعب الليبي الكريم في أقاليم البلاد الثلاثة، مولد دولة ليبية حرة مستقلة ذات سيادة تسمى "المملكة الليبية المتحدة".

بمجرد الانتهاء من إعلانه التاريخي، رُفع العلم الليبي الجديد على سارية قصر الخلد العامر في طرابلس، وسط تصفيق وتهليل وتكبير آلاف المواطنين.

حدث ذلك منذ اثنين وسبعين عاماً. وقتذاك، كان على الجيل الذي ولد بعد ذلك اليوم، وسُمي بجيل الاستقلال، أن يشكر الرجال والنساء الذين ضحوا بأرواحهم شهداء، وعلقوا في أعواد المشانق، أو قتلوا في ميادين المعارك ضد جيش استعماري بغيض، أو ماتوا غرباء في المنافي البعيدة والسجون وفي معسكرات الاعتقال. وكان على ذلك الجيل، منذ تلك اللحظة التاريخية فصاعداً، أن يضع حجر الأساس لأحلامه، فوق الأرض وتحت الشمس، في مأمن من الحرب، وفي حماية الدستور والقانون. وقبل ذلك، كان عليه الصمود، أولاً، ثم الانتصار ثانياً، في المعركة التي واجهته ضد ما خلفه الاستعمار الفاشي من إرث لدولة جديدة خاوية الخزائن: الفقر والجهل والمرض.

لحسن حظي، كنت أنا من أبناء ذلك الجيل. ولحسن حظي أيضاً أنني كنت من ضمن الناجين من أنياب الموت من الأوبئة والأمراض، التي كانت منتشرة، تفتك بالمواليد الجدد، نتيجة انعدام المرافق والرعاية الصحية. وخلال تلك المرحلة أطلت أحلامي برؤوسها في قلبي الطري كأفراخ صغيرة، وبدأت أهيء لها أعشاشاً. وأرعاها بالعناية والحرص. وحين حان اليوم المقرر لتطير في السماء حرّة طليقة، سُرقت منها السماء في الليلة السابقة. آنذاك، كنت على شفا الثامنة عشر من العمر، واقفاً في تقاطع طرق الحياة، وعليَّ الاختيار بينها، لاستئناف المسير.

في الأيام القليلة الماضية، مرت علينا، وباستحياء لافت، الذكرى الثانية والسبعون للاستقلال. وانبثقت في الذاكرة ظلال بهجة قديمة لذلك اليوم. تلك البهجة، وأسفاه، تحولت عبر مرور الوقت إلى حسرة مُرّة، تمضغ قلوبنا، بلا توقف.
الرحلة الليبية، منذ إعلان الاستقلال إلى يومنا هذا، استغرقت ثمانية عقود زمنية. ولم تكن مريحة وبهيجة، وسهلة. وكانت، أغلب الوقت، بلا "خارطة طريق". لكن العبرة في الرحلات، ليس بطول المسافة أو صعوبات الطرق ومشاقها، بل بما يتحقق من نتائج، أي بالوصول إلى الجهة المقصودة، وتحقيق الهدف أو الأهداف. وما تحقق من أهداف ليس خافياً للعيان. وها نحن اليوم، بلا حرية ولا سيادة، وقرارنا ليس بأيدينا، وثرواتنا منهوبة، وحدودنا مفتوحة أمام كل من هبَّ ودبَّ من كل جنسيات الأرض، من تجار تهريب بشر، وتجار تهريب سلاح، وتجار تهريب مخدرات... إلخ.

فهل كانت الرحلة، منذ إعلان الاستقلال حتى يومنا هذا، عبثية، أو عدمية، أي أنها بدأت من نقطة الصفر وانتهت إلى نفس النقطة بعد اثنين وسبعين عاماً؟
وهل كُتب على الليبيين، بعد ثمانية عقود زمنية، أن يكتشفوا أنهم، في حقيقة الأمر، معلقون في نقطة في فضاء، تقع في منتصف مسافة بين أرض وسماء؟