Atwasat

النشاز والقاموس المضلل

سالم العوكلي الثلاثاء 05 ديسمبر 2023, 03:56 مساء
سالم العوكلي

يعتمد الكيان الصهيوني في التعبير عن شرعيته المزعومة على تلاعب باللغة والمصطلحات، وسرعان ما تتبنى هذه اللغة والمصطلحات شبكات الإعلام الكبرى التي يمولها اللوبي الصهيوني، وكثيرًا ما تتورط قنوات عربية في استخدام نفس المصطلحات من باب المهنية والحياد ـ كما يتوقعون ـ رغم أن هذا الخطاب الناتج عن هذا التزوير اللغوي غير مهني وغير محايد من الأساس. وسنحاول هنا أن نفحص هذا التزوير الذي بالتأكيد سيحتاجه أي كيان مصطنع فُرِض بالقوة ضد منطق التاريخ وسرد الجغرافيا، وضد القانون الدولي، وضد الأخلاق. علينا أن نحدد تعريفات أو مفاهيم تخص هذه الظاهرة ونضعها في سياقها المنطقي:

أولًا: المصطلحات والمفاهيم التي انحرفت بتعريفات الاحتلال والمقاومة، والتي وضعت في سياقات محورة جعلت الضمير الإنساني ينسى أن الكيان الصهيوني كفكرة وتنفيذ هو احتلال لأرض أخرى مأهولة بسكانها الأصليين، وبالتالي فالمقاومة بكل أساليبها الممكنة مبدأ أخلاقي على مدى التاريخ البشري، وكل الدول التي تدعم الاحتلال وتدين المقاومة لها ذكريات استقلال تحتفل بها سنويًا بعد أن قاومت الاحتلال لسنين طويلة، وأدى هذا التلاعب اللغوي إلى أن تصبح جرائم قوة الاحتلال دفاعًا عن النفس، بينما أعمال المقاومة المشروعة توصف بالإرهاب.

ثانيًا: مصطلحات مثل (المدني والمسلح) ومفاهيمها في سياق ثوابت الاحتلال والمقاومة، فحين تحتل قوة غازية أرضًا بشعبها، فماذا يعني مصطلح (المدنيين) فيها؟ خصوصًا حين يكون هؤلاء المستوطنون مسلحين وكل يوم يمارسون التطهير العرقي وطرد السكان الأصليين والبناء على أراضيهم ومزارعهم، وفي هذه الحالة من المفترض أخلاقيًا أن يعامل المسلح وغير المسلح في المقاومة والدفاع عن الأرض معاملة المدني، فحتى قتل المسلح المقاوم على أرضه جريمة ضد الإنسانية. لقد حاكم الفاشيون الإيطاليون عمر المختار بتهمة أنه يحمل سلاحًا ضد الغزاة وأعدم، لكن محكمة التاريخ في النهاية أنصفت المختار وكرسته رمزًا ملهمًا لكل مقاومة في العالم، وسُجل الفاشيون الذين أعدموه فوق أرضه كمجرمين وإرهابيين وطغاة. كما أننا مازلنا نشهد حتى الآن اعتذارات الأجيال الراهنة من دول استعمارية قديمة عما فعله آباؤهم وأجدادهم بالشعوب التي احتلوها، وكثيرًا ما تشوه السياسة والأطماع الاستعمارية الاستيطانية اللغة ومنظومة القيم، لكن التاريخ كان دائمًا الأقدر على تصحيحها ووضع الأمور في نصابها، وإرجاع المصطلحات لمعناها الطبيعي والحقيقي.

ثالثًا: مصطلحات تعمها الفوضى مثل (الأسرى) أو (الرهائن) أو (المختطفون) أو (المعتقلون). وفي السياق نفسه وانطلاقة من ثنائية (الاحتلال والمقاومة) التي ستُرشِد كل المصطلحات اللاحقة إلى معانيها الدقيقة، فإن هذه المفاهيم يُتلاعب بها، لأنه حين أمسك بلص في بيتي وأحتجزه لا يعتبر مخطوفًا أو رهينة، باعتبار أنه موجود في المكان الذي لا يجب أن يوجد فيه، وهي حالة قبض على متلبس بجريمة سرقة أو انتهاك حرمة مُلكية.

من جانب آخر ونتيجة عدم توازن القوى ودعم الاحتلال من القوى الكبرى في العالم ومنحه شرعية كاذبة، فإن غزة برمتها رهينة لهذا الاحتلال وسكانها رهائن بكل معنى الكلمة، بينما من قُبض عليهم في غلاف غزة، هم متلبسون بانتهاك حرمة وملكية أرض ليست لهم، بنوا عليها مستوطناتهم تحت حماية السلاح، يعيشون تحت قبة حديدية لأنهم يدركون أنهم فوق أرض ليست لهم وتحت سماء لا تخصهم، ويعرفون كأي لصوص أنهم سيتعرضون للملاحقة والمقاومة والقبض عليهم.

المخطوفون في هذه الحالة هم المعتقلون الفلسطينيون في سجون الكيان الصهيوني، الذين خطفوا في وطنهم التاريخي من قِبل عصابات غازية لأنهم كانوا يدافعون عما يملكون فوق أرضهم. وحتى استبدال مخطوفين من سكان الأرض بمقبوض عليهم من الصهاينة ليس منطقيًا بأي حال من الأحوال، وهو استبدال مخطوف من بيته بخاطف قادم من آخر الدنيا، بل ويملك جنسية دولة أخرى جاء منها والده أو جده. أما المقبوض عليهم من جنسيات أخرى فهم في هذه الحالة مثل المهاجرين غير الشرعيين الذين دخلوا أرضًا بدون إجراءات قانونية ومن المفترض أن يعادوا إلى دولهم كما يحدث في دول كثيرة. أما مصطلح الأسرى فلا يصح إلا في حروب الحدود بين الدول الشرعية، وليس في حالة عصابات غازية وأصحاب أرض، وهو شأن سيقودنا إلى الملاحظة الرابعة.

رابعًا: مصطلحات مثل الحرب أو المعركة أو الدفاع عن النفس تستخدم بشكل مضلل تمامًا، من أجل استجداء عواطف المستهدفين من تزوير الحقائق. يعلن رئيس العصابة الصهيونية عن شن حرب، ويقول حربًا وليست معركة، بينما ما يحدث من العام 1948 داخل فلسطين المحتلة عصابات مرخصة دوليًا تقوم بعملية إبادة وتطهير عرقي لشعب أعزل، فالحرب تكون بين قوى متوازنة، سواء أكانت حروبًا أهلية أو إقليمية أو عالمية، حروب الاحتلال أو الحروب الحدودية أو حروب فتح ممرات لقوى استعمارية. لكن ما يحدث في فلسطين هو غزو وليس حربًا. غزو لأحد أقوى الجيوش الممول والمدعوم من جيوش كبرى (بالمال والسلاح والمقاتلين والمعلومات) من معظم دول حلف الناتو، لقطاع صغير محاصر وشبه أعزل مقارنة بالقوة الغازية، ويمثل أعلى كثافة سكانية فوق الأرض، ولأنه غزو من طرف واحد وليس حربًا متوازنة فقد غطى على حروب أخرى مزامنة، وحل في الأخبار محل حرب كبرى تهدد الكوكب بين روسيا الاتحادية وحلف الناتو في أوكرانيا، والسبب، لأن العالم لم ير مثل هذه المشاهد من القتل الجماعي والدمار والقصف العشوائي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ولأن من قتل من أطفال في شهر واحد هو عشرة أضعاف من قتل في حرب أوكرانيا طيلة عامين.

يتبنى الكيان الصهيوني هذا التحريف الأخلاقي للمفاهيم والمصطلحات والقيم منذ نشأته، مدعومًا بشركات إعلام كبرى مأجورة، وبتصريحات البيت الأبيض طيلة قرن إلا ربع، لأنه يسعى للحفاظ على مبدأ أن تكون الحقائق مبهمة، ليس تعتيمًا ولكن تسليط الضوء بشدة لدرجة إعماء العيون حيال مسألة تتعلق بالاحتلال لم يتردد الضمير الإنساني ومحكمة التاريخ في الحكم عليها، والحفاظ على هذه التعمية وتحريف التاريخ والحفريات سيكون من صميم بنية ما يسمى (دولة إسرائيل)، فهي منظومة عنصرية مسلحة دون حدود ودون دستور تتمتع بمقعد في الأمم المتحدة، ورغم ذلك يصر المجتمع الدولي على تسميتها (دولة). وحتى الآن يعتمد الكيان الصهيوني ما يسمى «قوانين أساس» مرنة قابلة للتلاعب والتعديل بسهولة، ولم يدبج دستورًا لما يسميه الدولة، لأنه في الأساس لم يحدد بعد تعريف المصطلحات التي تشكل معنى الدولة، ومازال السؤال المختلف حوله: من هو اليهودي المستحق للمواطنة الكاملة؟ وبالتالي من هو المواطن الذي من المفترض أن يسن الدستور من أجله؟ إضافة لغياب الإجماع حول التعريف العام للدولة وهويتها.

كما أن هذا الكيان الخارج بنيويًا وأخلاقيًا عن منطق التاريخ وكل القوانين الدولية، لا يمكنه أن يصيغ دستورًا في ظل هذا النشاز القانوني، ومن جانب آخر، فإن مرونة القوانين التأسيسية التي مازالت قائمة هي ما جعلتها تذهب بسهولة لتعديل أو سن قوانين فاشية مثل (إسرائيل يهودية)، والتعديلات القضائية، وقوانين تسمح بمصادرة الأراضي وهدم البيوت والاعتقال الإداري لسنوات طويلة دون محاكمة، وسجن القصر والأطفال وغيرها مما يخدم استراتيجية التطهير العرقي كهدف أساسي.

يذكر الباحث السياسي والصحفي، محمود الريماوي، في موقع العربي الجديد 23 يوليو 2023 أن عزوف هذا الكيان شبه العام عن وضع وثيقة دستورية (يكمن في حركية هذه الدولة، في كونها مشروعًا مفتوحًا على المستقبل، وأنها في حراك دائم لتحقيق مطامح صهيونية مضمرة ومعلنة.

ومنذ أقلّ من ثمانية عقود، تتغيّر خرائط الدولة الإسرائيلية من حقبة إلى أخرى. ولهذا لا ترغب الغالبية في المجتمع الإسرائيلي بـالتورّط بوضع دستور يحدّد الحدود الدولية لدولتهم، فقبل أن يتحدّث المستوطن الوزير بتسلئيل سموتريتش في باريس، مارس الماضي، وخلفه خريطة جديدة تُظهر حدودًا إسرائيلية تشمل الأردن، فإن رئيس حكومة المستوطنين نتنياهو ذكر في كتابه «مكان تحت الشمس» (1993) أن «الأردن أصلا جزءٌ لا يتجزّأ من أرض إسرائيل»، وأن «الأردن تمتدّ على أربعة أخماس المنطقة التي خصّصتها في حينه عصبة الأمم وطنًا قوميًا لليهود»، مع العلم بأن عصبة الأمم لم تعد مرجعية دولية يُعتدّ بها منذ قيام الأمم المتحدة في العام 1945).

ولذلك، ليس بالغريب، أن تبقى المنظومة الصهيونية دون دستور، لتحافظ على هويتها كنظام أبارتيد عنصري يعترف به المجتمع الدولي وتدعمه الدول الفاعلة في سياسات العالم. وهذا الغموض في بناء هذا الكيان ما يجعله خارج المساءلة الدولية محميًا بالفيتو الأمريكي، وخارج متناول المحكمة الجنائية الدولية، وما يجعله خارجًا عن كل القوانين الدولية دون أن يتعرض لأي إدانة تتعلق بهذا المروق المعلن، لأنه ببساطة مشروع أوروبي غربي لصناعة جيتو يهودي خارج أوروبا، يُنفى إليه مواطنوهم من اليهود، ومن جانب آخر ليخلق حالة توتر دائم في منطقة الشرق الأوسط تخدم أهدافهم ومصالحهم على مدى طويل، ومن أجل تمرير هذا المشروع الغريب، ضد منطق التاريخ والجغرافيا، لابد من تزويده بمصطلحات ولغة خاصة للتشويش على أي أطروحة أخلاقية ضد هذا النشاز الكبير في تاريخ البشرية.