Atwasat

الأقطار يوحدها صوت القطار

سالم العوكلي الثلاثاء 28 نوفمبر 2023, 12:41 مساء
سالم العوكلي

غالبًا ما يكون للمشاريع الضخمة التي تقيمها الأمم أهداف أخرى؛ سياسية واجتماعية وثقافية، غير أهدافها المباشرة، اقتصادية أو خدمية، مثل خلق نوع من التناغم الثقافي للمجتمع المجزأ، أو نوع من تحفيز الانصهار الوطني للكيانات المهددة بحركات انفصالية، خصوصًا تلك المشاريع التي تعزز سبل التواصل وانسياب الحركة، وترويض الجغرافيا الشاسعة لقطاعات النقل المريحة والسريعة وقليلة التكلفة.

من هذا المنطلق تحتاج ليبيا الآن إلى إقامة مشروع وطني ضخم يسهم فيه كل الناس ويحتشدون خلفه، وهو مشروع تأخر وتأجل كثيرًا لأسباب عدة، وكل تأجيل كان يزيد مبلغ تكلفته أضعافًا. مشروع ربط غرب وشرق وجنوب ليبيا بطرق السكك الحديدية. وأثبتت الكارثة التي حدثت في درنة وبعض مناطق الجبل الأخضر حاجتنا الماسة إلى القطارات حيث تعثر العمل اللوجستي بسب أزمة النقل التي اعتمدت على الوسائل البرية في طرق معظمها متضررة.

هذا المشروع كان من أولويات خطط التنمية الليبية منذ تصدير النفط العام 1963. حيث اعتبره الخبراء البنية اللوجستية لأي مشاريع مستقبلية تتعلق بالتنمية المكانية والمستدامة، وتنويع مصادر الدخل الذي كان المنطلق الأساسي للخطة الخمسينية الملكية 1968 ـ 1974 بعد ترحيلها إلى العام 1969. إضافة إلى أهمية هذا المشروع التنموية كان ينظر إليه كعامل مهم لتوحيد البلد جغرافيًا بعد توحيده دستوريا، وباعتبار أن أول مشروع أسهم في توحيد هذه الجغرافيا وفي وصف كيانها الموحد كان الطريق الإسفلتي الذي أنشأه إيتالو بالبو عبر الساحل الليبي في سياق توحيد أقاليم المستعمرة بعد القضاء على المقاومة واستقرارها نسبيًا. فصناعة الأمم ووحدتها وتماسكها لا يمكن أن يكون عبر الشعارات والعواطف، بل عبر تحفيز هذه المشاعر بمشاريع وطنية ضخمة من شأنها أن تكون جسد وشرايين وعروق الكيان، ومن شأنها أن تؤازر عمليات التواصل كأساس لتجسيد ما نسميه شعاريًا «النسيج الاجتماعي الواحد» ولا نسيج يتم دون فتل وضفر وربط أجزائه..
سيطر الرُّهاب الأمني على سياسات البلاد لعقود طويلة، وعطّل أو أجّل الكثير من مشاريع وطنية تنموية وخدمية، في ظل وسواس قاهر يتعلق بفوبيا الأجانب ومخاطر الانفتاح، والخوف والحذر من سلاسة التواصل الاجتماعي الذي قد يهدد النظام غير الشرعي بإمكان الاحتشاد فيما قد يتحول إلى ثورة.

مشاريع مثل السياحة وتجارة العبور والمواصلات البحرية تعطلت لهذه الأسباب التوجسية، ومن ضمنها مشروع السكك الحديدية، حيث اعتقد النظام، بل عبَّر عن ذلك عبر بعض كتابات رأسه التي تعتبر أن الثورة الشعبية في ليبيا مستبعدة بسبب عدم وجود كثافات سكانية، وبسبب البعد الجغرافي بين المدن، وعدم القدرة على الاحتشاد في وقت قياسي، وهو يدرك جيدًا أن القطارات كانت عاملًا رئيسيًا في الحشد لثورات كبرى في أوروبا أهمها الثورة البولشفية (بدأ المشروع متعثرًا وبطيئًا العام 1992).

وهذا الهاجس المرضي حرم الليبيين من مشروع مهم للتواصل بينهم ولتحريك عجلات التنمية والتجارة والسياحة الداخلية والخارجية، ومع إيقاف محاولات تفعيل النقل البحري الداخلي ومع التزاحم على الطريق البري وما تسبب فيه من حوادث أودت بحيوات عشرات الآلاف، ومع التكلفة العالية للنقل الجوي، تقلصَ التواصل بين جهات ليبيا إلى حد بعيد، وانتعشت بالتالي هواجس المركزية والتهميش، وما تمخض عنهما من تعصب جهوي ونزوع انفصالي، نتيجة بُعد العاصمة (مقر بيت المال) على الكثير من المدن الليبية.

الآن حتى الدول السابحة في الفلك الغربي منذ نشأتها، بدأت تتجه إلى القوى الصاعدة أو العائدة في الشرق من باب تنويع الفرص، وعدم الخضوع لشروط التبعية، وخطورة وضع كل البيض في سلة واحدة، وأيضًا بسبب هوس هذا الغرب بفرض العقوبات على الدول التي تخرج عن طاعته أو أجندته نتيجة انخراطها في منظومته الاقتصادية والمالية، بسبب أو دون سبب. لذلك ففرصة ليبيا لإقامة مشروع السكك الحديدية متاحة بالشراكة مع دولة لها باع كبير في هذه الصناعة، الصين التي يمكن أن تسهم في تمويل هذا المشروع في سياق استراتيجية «حزام وطريق الحرير» الذي تُشكل ليبيا أحد ممراته وفضاءاته المهمة. ويجب على السياسات الليبية أن تعرف أين تتموضع مع ما يشهده العالم من ترتيبات جديدة لمناطق النفوذ الاقتصادي مع ظهور مراكز جديدة للتنمية العالمية، وبداية تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب تتموضع فيه كتل اقتصادية جديدة تسعى للخروج عن هيمنة الغرب، والتقليص من نفوذ الدولار الورقي الذي تحكم في قوت البشر حتى دون أن يكون له رصيد من الذهب. من جانب آخر فإن الصين متطورة جدًا فيما يخص إنشاء الطرق الحديدية وصناعة القطارات وحفر الأنفاق إذا ما استلزم الأمر، وسيكون هذا المشروع تنافسيًا لها بعد الشراكة الجارية حاليًا بين أمريكا والهند لإقامة خطوط سكك حديدية تربط الهند مع أوروبا مرورًا بالشرق الأوسط. والمهم أن ينشأ جهاز أمني خاص بهذا المشروع وحمايته وباستخدام تقنيات المراقبة والملاحقة الحديثة التي توفر الجهد والموظفين.

في حوار أجرته الإعلامية أميرة التومي لوكالة الأنباء الليبية بتاريخ 18 يونيو 2023 مع المهندس سعيد الكيلاني، رئيس مجلس إدارة مشروع السكك الحديدية في ليبيا، يذكر «أن الكثير من العقبات والعوائق المالية واللوجستية والأمنية تواجه هذا المشروع كالتعديات من قبل المواطنين على الخطوط والمسارات والمحطات الخاصة بهذا المشروع. وإن عدم وجود جهاز أمني لحماية المشروع جعله عرضة للسرقة والتعديات، مؤكدًا أن آليات ومعدات المشروع كافة ومحطات الشركة المقامة كافة قد سُرقت ونُهبت».

الجدير بالذكر أن الشروع في تنفيذ شبكة حديثة للسكك الحديدية في ليبيا بدأ مرتبكًا في العام 1992 بعد صدور القانون رقم (14) لسنة 2003 الخاص بإنشاء «جهاز تنفيذ وإدارة مشروع الطرق الحديدية»، ويبلغ طول السكك الحديدية المتوقع إنشاؤها في البلاد قرابة 3170 كيلومترًا، وعدد المحطات 75 محطة، وعدد الجسور 168جسرًا، وسيربط بين بلدتي رأس اجدير وامساعد، أي الحدود الليبية الدولية مع كل من مصر وتونس عبر خط ساحلي متوقع أن يمر عبر أهم المدن الليبية، إضافة لمروره بمناطق مختلفة من صحارى وجبال ومناطق زراعية، وخط ثان سيصل بين الهيشة جنوبي مصراتة وغرب سرت، وبطول 800 كيلومتر، ومن ثم قد يصل في مرحلة ما إلى النيجر جنوب ليبيا. وواجه هذا المشروع كل العقبات المذكورة ومماطلات عدة منذ الشروع فيه، غير أن تجارة تهريب المعادن التي نشطت كتجارة موازية في الأعوام الأخيرة، جعلت من أي معدن حديد هدفًا للصوص وأصبح تجارةً خارج القانون لا تختلف عن تجارة المخدرات أو تهريب الوقود. ويُذكر في (ويكيبيديا: السكك الحديدية في ليبيا) أن «شركة الصين لإنشاءات السكك الحديدية» تعاقدت بتكلفة 2.6 مليار دولار لإنشاء الخط الرابط بين سرت والخمس بطول 352 كيلومترًا، والخط الرابط بين طرابلس ورأس اجدير، والخط الآخر الذي يصل بين ميناء قصر أحمد في مصراتة ووادي الشاطئ قرب مدينة سبها. بينما تكفلت «شركة السكك الحديدية الروسية» بإنشاء الخط الثالث 554 كيلومترًا بين مدينة بنغازي وسرت وستقوم بإنشائه «شركة السكك الحديدية الروسية». وكما سيقام خط بنغازي طبرق مرورًا بمدينة المرج والبيضاء ودرنه، وفيما يخطط لإنشاء خط عبر الصحراء الكبرى يصل إلى النيجر. وكانت المدة المحددة لإنشاء هذه الشبكة 4 سنوات. غير أن المشروع كان دائم التعثر لأسباب سبق ذكرها، إلى أن قامت ثورة فبراير ودخلت البلاد في فوضى عارمة أصبح فيها الصراع على السلطة وعلى المال من أولويات ساستها، ما أدى إلى انتصار خطاب الكراهية على خطاب المشاريع الوطنية التي من شأنها أن تربط أجزاء الوطن بدل أن تثير بينها الضغائن.
وفي الحوار نفسه يضيف مهندس الكيلاني: «أن هذا المشروع يكتسي أهمية كبرى حيث سيربط كل مدن ليبيا ببعضها البعض، ويربط ليبيا بدول الجوار والعالم الخارجي، وستكون ليبيا بوابة عبور بين أفريقيا وأوروبا بعد أن تربط السكة الحديدية ليبيا بالدول الحبيسة جنوب الصحراء، النيجر، تشاد، مالي التي لا تتوفر على منافذ بحرية، مؤكدًا أن هذا المشروع الكبير سيكون ثاني مشروع على مستوى الدخل في ليبيا بعد النفط... وأن النقل الحديدي سيدفع بعجلة الاقتصاد والتنمية من خلال الاستفادة من المواد الخام التي تتوفر عليها ليبيا في الجنوب حيث سيتم نقلها إلى الموانيء في الشمال قبل تصديرها إلى الخارج وتعود بالفائدة على الليبيين كافة». وبالطبع، إضافة هذه المداخيل الاقتصادية إلى ما ذكرناه عن أهمياته السياسية والاجتماعية والثقافية عبر الربط بين المجتمعات الحضرية المتناثرة في هذا الامتداد الشاسع. لأن سلاسة كل وسائل المواصلات والتواصل داخل الأمة هو ما يصنع نسيجها الاجتماعي المتضافر ووجدانها الوطني.