Atwasat

هل يعيد التاريخ نفسه؟

جمعة بوكليب الأربعاء 01 نوفمبر 2023, 07:46 مساء
جمعة بوكليب

العالم الذي نعيش فيه، رغم تحوّله إلى قرية في عصر ثورة الاتصالات التكنولوجية، مازال، في رأيي، في حاجة إلى مزيد من المعرفة والاطلاع والاكتشاف، خاصة الأجزاء منه ذات الصلة بالتاريخ.

آخر ما اطلعت عليه كتاب بعنوان «حياتي الأفريقية- My African Life» لكاتب صحفي ومصور وشاعر بولندي الجنسية ومشهور، اسمه ريتشارد كابوشينسكي، توفي في عام 2007.

الكتاب وقع بين يديّ بالصدفة، وصدر عام 1998 باللغة البولندية وترجم إلى اللغة الإنجليزية، ونشرته دار بنجوين في العام 2001. ويضم مقالات نشرها الكاتب لرحلاته في بلدان أفريقيا، منذ أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، وخلال فترة زمنية امتدت لمدة خمسة وأربعين عامًا. وكتبه بأسلوب متميز، يأسر القاريء. ويمتليء بمعلومات مهمة عن فترات في تاريخ أفريقيا، من أجل التحرر من الاستعمار، كما يتعرض بالوصف والتفسير إلى إحباطات مرحلة ما بعد التخلص من الاستعمار.

الكاتب، خلال زيارة له قام بها إلى منروفيا، عاصمة ليبيريا، يقدم للقاريء في صفحات قليلة لمحات مهمة في تاريخ ذلك البلد، منذ تأسيسه، على يد عبيد سود محررين من الرق قادمين من أمريكا، في القرن التاسع عشر. ويحدد الكاتب عام 1821 تاريخًا لوصول أول سفينة قادمة من أمريكا، رست في ميناء منروفيا على المحيط الأطلنطي، وعلى متنها ممثل لجمعية أمريكية اسمها «الجمعية الاستعمارية الأمريكية-American Colonisation Society» وهي جمعية أسسها ليبراليون أمريكيون يناهضون العبودية، وبدأوا في حملة هدفت إلى تحرير العبيد، وذلك قبل بدء الحرب الأهلية الأمريكية في عام 1860، التي شنّها الرئيس أبراهام لنكولن، ضد ولايات الجنوب الأمريكي، وانتهت بانتصار قواته، والقضاء على العبودية في أمريكا.

موظف الجمعية ذاك، كان اسمه روبرت ستوكتون، تمكن بالتهديد والوعيد من إجبار زعيم قبيلة أفريقية على بيع الأراضي المملوكة لقبيلته، الواقعة على ساحل البحر، مقابل مبلغ زهيد، تمثل في عدد 6 بنادق، وعقود من الخرز.

الجمعية اختارت تلك البقعة بهدف ترحيل العبيد السود المحررين من الرق من أمريكا، وتحديدًا من مزارع القطن في ولايات فرجينيا وجورجيا وميرلاند، وإعادتهم إلى أرض أجدادهم في أفريقيا بغرض التوطين. ومنذ ذلك التاريخ بدأت السفن تصل إلى منروفيا قادمة من أمريكا، حاملة شحنات من العبيد المحررين.
ليبيريا الدولة المعروفة الآن، تأسست عام 1847، على أيدي أولئك العبيد المحررين من الرق. كابوشينسكي المؤلف يؤكد أن عدد العبيد المحررين الذين أسسوا دولة ليبيريا، كان لا يتجاوز ستة آلاف شخص.
لكن المهم في القصة استنادًا إلى كابوشينسكي، هو أن أولئك المحررين من العبودية، لم يعرفوا في حيواتهم سوى نوع واحد من الحياة، قائم على معادلة السيد والعبد. لذلك منذ وصولهم عملوا على تطبيقه فعليًا في تلك البقعة الأفريقية. إذ جعلوا من أنفسهم أسيادًا، وجعلوا من بقية الأفارقة الأصليين عبيدًا. وعاملوهم باحتقار ودونية، كما كانوا هم يُعاملون من قبل أسيادهم البيض في أمريكا. المؤلف كابوشينسكي يقول إن نظام الفصل العنصري وجد أولًا في ليبيريا على أيدي أولئك العبيد المحررين الأمريكان، قبل أن يوجد في جنوب أفريقيا.

ألا يذكرنا ذلك بما فعلة اليهود القادمون من مختلف بلدان العالم إلى فلسطين؟ فأولئك اليهود المهاجرون لم يعرفوا في حيواتهم، في مختلف المهاجر سوى نوع واحد من الحياة، في مختلف المجتمعات التي ولدوا وعاشوا بها. حيث عاشوا معزولين في «جيتوات» خاصة بهم، وفي منزلة اجتماعية دونية. وعانوا من الاضطهاد والكراهية والاحتقار الشيء الكثير. ولذلك، حين أسسوا دولتهم بعد حرب عام 1948، اتبعوا نفس النهج الذي خطّه قبلهم العبيد المحررون من الرق في أمريكا، لدى قدومهم إلى أفريقيا. وعاملوا سكان الأرض باحتقار يماثل ما كانوا يلاقونه، واضطهدوهم مثلما اضطهدوا هم، وفرضوا نظامًا عنصريًا شبيهًا بالذي كانوا يعيشونه في المهاجر.
كابوشينسكي يقول إن النظام العنصري في ليبيريا، استمر قرابة مائة عام. وانتهى لدى قيام شخص اسمه صمويل دو، ينتمي إلى إحدى القبائل الأفريقية الأصلية، وكان برتبه عريف في الحرس الرئاسي، حيث قام بصحبة عدد لا يتجاوز عشرة أفراد من نفس الحرس، بقتل الرئيس والتمثيل بجثته، ووضع نهاية لذلك النظام.

دروس التاريخ لا تنتهي، والعبرة في التعلم منها. أحيانًا، يجوز للتاريخ أن يعيد نفسه في فترة زمنية لاحقة، وطبعًا بما يتسق والمعطيات الواقعية على الأرض. فهل نرى، في المستقبل القريب، ما حدث في ليبيريا، ثم جنوب أفريقيا، يتحقق في فلسطين؟