Atwasat

جبل الموساد

منصور بوشناف الخميس 19 أكتوبر 2023, 07:15 مساء
منصور بوشناف

جبل «مسادا» أو «مسعدة» كما يسميه الفلسطينيون كان ملاذا أو ملجأ لأحد ملوك إسرائيل، بُني فوقه قصر محصن يصعب الوصول إليه به خزانات للمياه تكفي ساكنيه لمدة طويلة وكذا الأكل فقد كانت به مخازن ضخمة للطعام والأسلحة للدفاع عنه في حالة نشوب تمرد أو ثورة ضده.

إحدى الفرق أو الطوائف اليهودية قادت تمردا وفشلت في تمردها فلجأ أفرادها إلى ذلك الجبل الحصين وتمترسوا به، مَن حاصر تلك الفرقة لم يكن اليهود وإنما الرومان الذين أحكموا قبضتهم على تلك المملكة اليهودية ولم يتبقَ إلا أولئك المتمترسون بجبل «مسادا» الحصين.

كانوا يحتمون بكهوف ذلك الجبل رجالا ونساء وشيوخا وأطفالا، يسدون منافذ الكهوف وتحاصرهم قوات الرومان المتوحشة ليتشكل «غيتو الفناء» يقوده رجل الدين اليهودي المتطرف للعودة إلى أرض الميعاد محميين بجبل المسادا الحصين أو إلى الجنة كما يعتقدون.
يصمد المدافعون والمسادا والكهوف، وتتشكل حياة «الغيتو» بأطفالها ونسائها ورجالها وشيوخها تحت حصار الآخر مهددة بالفناء رغم المسادا والكهوف المظلمة.

صمود المدافعين والمسادا وكهوفه ورغم كل الإيمان والأدعية ورغم التلاحم بين سكان كهوف المسادا، كان محكوما بالانهيار تحت حصار الروماني وإن طال الصمود، لذا كان على روح ذلك «الغيتو» وعقله أن يعد سكان كهوف المسادا لعبور جديد عبر صحراء الانتحار الجماعي إلى أرض الميعاد الأخيرة أو الجنة التي وعدوا بها.

ميراث سكان كهوف المسادا المحاصرين جعلهم وإثر استحالة الخروج والسفر يلجؤون إلى العبور الأخير، فكان الأمر بأن يعبر كل أب بزوجته أولا ثم بأطفاله ليكون آخر العابرين إلى أرض الميعاد الأخيرة «الجنة» بالذبح كي لا يجد محاصروهم إلا جثتا للسبي والاستعباد بينما تعبر الأرواح العبرانية محلقة على قمة جبل المسادا لا يطالها السبي ولا الاستعباد.

على هذا النحو وما إن بدأت جدران كهوف جبل المسادا تهتز تحت ضربات الرومان حتى شرع كل أب في ذبح زوجته ثم أطفاله ليختتم المذبحة بانتحاره السامورائي المريع.

قائد ومرشد تلك المعركة العدمية «رجل الدين اليهودي» ظل يتابع عبور سكان جبل المسادا، متفقدا رعاياه وهم يقومون بقفزة العبور نحو العدم والفناء حتى آخر روح فيهم ليعبر بروحه غارسا سيفه في أحشائه ليسوق أرواح أتباعه إلى مرعاها الأخير..

مع نشوء الحركة الصهيونية الحديثة والشروع في مشروعها الاستيطاني العنصري في فلسطين جرت إعادة هذه الحادثة بسردية مغايرة، فبعد أن كانت سردية نهاية متمردين مارقين ضد دينهم وشعبهم تحولوا في السردية الصهيونية الجديدة إلى أبطال قوميين لم يقبلوا بالاحتلال الروماني واختاروا الموت انتحارا «كأي خيار شمشوني مهيب». هذه السردية الحديثة لذلك الانتحار الجماعي جرى تسويقها ونشرها ثم اختفت من الأدبيات الصهيونية وجرى استبدالها بجبل آخر بدل جبل «مسادا» هو جبل الموساد الحصين، بكل تحصيناته وخزاناته وكهوفه المظلمة ليكون الملاذ الأخير قبل مهرجان الانتحار الجماعي المهيب.

خيار جبل مسادا القديم والخرافي لا يختلف كثيرا عن خيار جبل الموساد الحديث فالفكرة واحدة وبالاستراتيجية والتكتيك نفسيهما، فكلاهما كان يعرف استحالة القضاء على الآخر الذي يحاصرهم وكل ما يمكنهم فعله ليس أكثر من تأجيل ساعة الانتحار الجماعي والتمرين أكثر على ممارسة طقوسها المرعبة والمهيبة، فحتى مقلاع «داود» لم يعد بحوزتهم بل شهره في وجه دروعهم محاصروهم من فتية فلسطين وأخذت حجارة السجيل تسقط فوق رؤوسهم حجرا وقذائف ودماء شهداء ترعب سكان كهوف جبل مسادا أو جبل الموساد..
إسرائيل ومن جبل موسادها الذي لم يعد حصينا تبدأ في شعائر انتحارها الجماعي بالعودة إلى سردية جبل مسادا العدمية عبر عدم الاعتراف بحقوق الآخر في العودة لأرضه وإقامة دولته وتحقيق ما حققته غالبية شعوب الأرض حق تقرير المصير والاستقلال.