Atwasat

لمن ستغرد العصافير في درنة

رمضان المصراتي الجمعة 13 أكتوبر 2023, 04:33 مساء
رمضان المصراتي

بضعة مبانٍ قديمة خلصت نجيا من الإعصار مقذوفا في محياها الحزن ويغمرها الفقد والحداد والألم وثمة هوس قديم يعتريها، هذا ما تخاطر في ذهني من تلك الكلمات التي أرسلها لي أحد الزملاء وهو صديق لي عندما دخل إلى أحد تلك المباني التي كان يسكنها أحد أقاربه عندما فاجأهم الرحيل في ساعات الفجر الأولى دون أي وداع أو عناق مع أي أحد سوى عناق أخير مع غيض الماء الذي اقتلع وجرف درنة وتركها مثل عوسج خائر القوى معلقة الروح في السماء دون جسد وبالرغم من قوة المواجهة ما زالت مدينة الياسمين والحلم تدافع عن لقبها بجسارة... فهذا ما عُرفت به حتى عندما أرادوا غزوها واجتياحها.

هي درنة تقف مثل بطل أنهى منازلة وساعات صراع أخيرة ليحافظ على لقبه خائراً ومشتت القوى ولكن رغم سطوة المواجهة احتفى وانتصر في المواجهة مثل كل مرة دون منازع ليقينه بأنه سوف ينتصر.

تزدان تلك المباني القديمة البسيطة بعبق ماضٍ جميل وبهيج ينشرح صدر من يدخل إليها زائراً كأنها تعانق من يدخل إليها.... تعانق تلك المباني هي الأخرى بعضها الآخر كأنها ثلة من أطفال تركوا ليواجهوا مصيرهم المجهول في غياب ذويهم وأحبابهم يبحثون عن أي أثر يوصلهم بزمن يبحثون عنه في إحدى حارات درنة العتيقة التي شهدت على أحداث تاريخية سالت فيها الدموع والدم والعرق موغلة في التاريخ تسكنها أرواح لم تفارقها تشعر بوجودها في ليالي درنة الربيعية المقمرة تلك الحارات والمنازل التي تحتوي الجنان القديمة المزروعة بالحبق والمردقوش والياسمين التي طالما تسامرنا فيها مع سهارى البسطاء من أهلها الرائعين وكل من حل عليها ضيفاً في ليالي الربيع والصيف وحتى ليالي الشتاء ستنعم لا محالة بدفء خجل عذاريها وترحيب أهلها لتنعم بنوم تتخلله أحلام يبهجها ذلك الوادي المهيب تتخللها الحكايا والقصص الجميلة التي تنسج تفاصيلها النساء الودودات من العجائز اللاتي يسكنهن الصفاء والمحبة عن محبين تناجوا هنا رسموا أجمل لوحات الدراما العفيفة الصادقة وعن السيرة الهلالية وعن فزعة الليبيين إلى درنة في تجريدة حبيب وعن المولد النبوي الشريف وسيرة الصحابة العطرة وعن رفاق جلسوا على مصطبة يتبادلون أطراف الحديث تغازل عيونهم الفتيات العابرات من الشارع بإعجاب يحاصره الخجل واحترام الأعراف والمثل ويعبثون بالفكاهة مع المارين من أهل الحارة بضحكات ساخرة لا تقلل من القدر والاحترام.

تتألق درنة وتزدان بتلك الليالي المقمرة التي يفيض منها حنان العجائز ورائحة الياسمين والقماري والمسك والجاوى تجوب تلك الروائح العطرة المساجد العتيقة والمآذن القديمة والزوايا المباركة والكنائس يعتريها الشوق لمن رحلوا من الأحبة وتحتفي ألفة ومودة بمن قدموا في ليالي الصيف المقمرة أو في ليالي الشتاء الدافئ أو ربيع الوادي والجبل وصباحه الطلق البديع وهو يختال ضاحكاً متبسماً ولطالما احتفى مسجد الصحابة المبارك بقبور صحابة رسول الله مع من حضر ليالى المولد الشريف أو صام رمضان واعتكف عبر ردح من زمن جميل وأناس جميلة قلوبهم معلقة بحب الله والشوق والحنين إلى درنة جابوا ديارها وازدانت الأزقة بجمال طبعهم وروائع شعرهم وحكاواهم الأنيقة في ليالي الصيف المقمرة التي كانت تقول هنا درنة بلد الصحابة كم أحبتهم درنة كما أحبوها ورضخت الطبيعة لهم تقديراً ووقاراً واحتراماً فهم أهل العود النظيف الذي لم يكن بأي حال من الأحوال أن يعوج ظله.....نقاء السريرة ونظافة اليد واللسان..... ماذا تبقى من كل ذلك..... ثمة مبانٍ هنا وهناك ظلت شاهدة على ما حدث هجرها سكانها دون موعد ورحلوا دون وداع وعناق ومعهم شقيقتي تركوا خلفهم أسى وحزناً عميقاً وحداداً وبعضاً من أشيائهم الجميلة التي كانوا يقتنونها..... وعصافير تغرد ببكاء هي من الناجين من اليم ولكنها لم تنج مثلنا من ألم فراق الأحبة...... يعودني التذكر لوجه أول ميت أراه كان طفلاً لم يبلغ الحلم وأتذكر أول عروس كانت إخوتي وأمي يبكون يوم زفافها كانت أختي وها هي ترحل عن درنة دون وداع ولا عناق للأحبة وعصافير تغرد في منزل أقارب صديقي الذين أيضاً رحلوا اعتادت هي الأخرى أن تراهم وهم يطعمونها حباً ووداً..... وما زالت العصافير تنشد أهزوجة أشبه بسيمفونية الوداع.