Atwasat

عقاب العقوبات

سالم العوكلي الثلاثاء 25 يوليو 2023, 11:32 صباحا
سالم العوكلي

هدأت الحرب الباردة التي اشتعلت بعد الحرب العالمية الثانية بين قطبي العالم الكبيرين لعقدين تقريبا من الزمن، بعد أن تفكك أحد هذين القطبين، وانهار حلف وارسو. ومنذ وصول بوتين إلى سدة الحكم، رئيساً ورئيس حكومة بالتبادل، رسم إستراتيجيته على أن تعود روسيا كقطب آخر للقوى العالمية يحسب لها حساب عبر مشاريع للتسلح والتمدد والتحالف، وبناء قاعدة اقتصادية قوية، والتدخل في مناطق ساخنة من العالم، واجتياح مجالات حيوية أخرى. وفي العقد الأخير، استطاعت روسيا فرض نفسها كرقم صعب، ومن جديد تبدأ الحرب الباردة، وهذه المرة عبر محاور عدة، حيث مثّل المحور الشرقي روسيا والصين كقوى كبرى تدور في فلكها عدة قوى راديكالية صغرى (إيران وكوريا الشمالية وفنزويلا)، والمحور الغربي التقليدي مازال محتفظا بحلفه العسكري «الناتو» الآخذ في التوسع شرقا صوب حدود روسيا الاتحادية العائدة بقوة، بقيادة الولايات المتحدة وأوروبا التابعة مع مشاكسات لهذا الحلف من قِبل فرنسا التي خرجت من الحرب العالمية الثانية مغضوبا عليها من القوى المنتصرة، لموقفها السلبي فترة الحرب مع النازية، ومازالت فرنسا المحرَجة تحاول أن تكون مختلفة عن الانصياع الأوروبي لأميركا على الرغم من التحالف في عديد الملفات المشتركة، وربما هذا ما جعل فرنسا تدعم الجيش في الشرق الليبي رفقة روسيا، مع انحياز باقي القوى الغربية للمركز في الغرب الليبي في سياق تحمسها للإسلام السياسي، أو ما تسميه «الإسلام المعتدل»، لتعبئة الفراغ الذي تسبب فيه الربيع العربي في بعض الدول، لتجد ليبيا نفسها أداة أو ميداناً مفترضاً لتمارين تسخين الحرب الباردة في الشمال الأفريقي مثل فيتنام أو كوريا أو كمبوديا أو كوبا، أو غيرها من مناطق النزاع التي صدرت لها الحرب الباردة حروباً ساخنة راح ضحيتها عشرات الملايين من القتلى ومن الدمار الشامل.

روسيا تعلن إستراتيجيتها العسكرية واضحة ودون مواربة في الحرب على الجماعات الإرهابية، ويصاحب هذه الحرب دعم للدكتاتوريات القائمة في المنطقة أو دعم مشروعها المستقبلي (مثل الدفاع عن نظام الأسد أو دعم ترشح سيف الإسلام للانتخابات الرئاسية). من جانب آخر، فالولايات المتحدة ترى نجاح إستراتيجيتها العسكرية في وجود هذه الجماعات المتطرفة الخارجة عن القانون، وهي تخترقها استخباراتيا، وترعاها عن بُعد، وتوجه لها الضربات من حين لآخر إذا ما خرجت عن السيناريو المرسوم لها، أو طالت أظافرها بشكل قد يهدد الغرب في عقر داره، فإثارة الفوضى في مناطق كثيرة كانت إستراتيجية الولايات المتحدة، للتدخل حيث ومتى ما شاءت في أي بقعة في العالم، وفي هذا السياق تروج للافتة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان بعكس روسيا التي تدعم النظم المركزية الشبيهة بها علانية.

وفي ظل هذه الحرب الباردة، تتعثر محاولات حل الأزمة الليبية التي ترعاها الأمم المتحدة، حيث إنه لا بد لكل مبعوث أممي إلى ليبيا أن يتوافق عليه القطبان، فليبيا الآن بين ميراث من الفوضى والميليشيات والحركة المحسوبة للجماعات الإرهابية كأجندة أمريكية، وإرساء دولة ديمقراطية وفق بيانات الغرب، وانتخابات تحتوي القوى الدينية ربما ستكون شبيهة بديمقراطية وانتخابات أفغانستان التي أُنجزت خلال 20 سنة، وأُسقطت خلال أسبوع، لتعود أفغانستان لمربع الظلام الأول نفسه قبل التدخل الأميركي. ومن جهة أخرى، فإن الأجندة الروسية التي تعلن الحرب على الإرهاب وتطبقه قد تفضي إلى نظام دكتاتوري مثلما فعلت وتفعل روسيا في أمكنة كثيرة من العالم، وبين مطرقة الولايات المتحدة وسندان روسيا تُطحن ليبيا بينما ساستها مشغولون بالغنيمة وباستدرار عطف الحلفاء.

بعض الدول الإقليمية، وتركيا كعضو في حلف الناتو، وبعض الدول الأوربية ليست سوى بيادق لهذه اللعبة التي يلعبها الكبار، مثلما كان دورها في أثناء الحرب الباردة الأولى. والأمم التي تحولت إلى ميادين للحرب الباردة، إما انقسمت أو دخلت في نفق لا ينتهي من الفوضى، أو تحولت إلى دكتاتوريات شرسة، وفق ميزان القوى الداخلية ومدى استجابتها لأحد القطبين.

لا نتحدث هنا عن صراع أيديولوجي بين رأسمالية وشيوعية كما كانت لافتة الحرب الباردة الأولى، ولكن عن صراع مصالح ونفوذ جديد بين قوة أعتقدت لفترة أن التاريخ انتهى بانتصارها وسيطرت على العالم وأصبحت القطب الوحيد فيه، وبين قوة تعود من جديد للمشهد الدولي وتحاول أن تعلن وجودها في أماكن كثيرة من العالم. قوة تتحدث عن الديمقراطية وهي ترعى بحذر تفشي الجماعات الخارجة عن القانون، وقوة تحارب هذه الجماعات، وإحدى أدواتها للحرب عليها دعم النظم االدكتاتورية القائمة أو المخطط لها أن تقوم.

الفارق في هذه الحرب الباردة الجديدة أن هذه القوى ما عادت تستخدم جيوشها مباشرة، وأصبحت تتدخل عبر أذرع أو مخالب لها في المنطقة، أو عبر شركاتها الأمنية الخاصة (بلاك ووتر ـ فاغنر ـ سادات التركية)، بينما أصبحت العقوبات الاقتصادية في اتجاه واحد الأداة الأساسية لهذه الحرب الباردة، وهي عقوبات مازالت تملك أزرارها الولايات المتحدة والدول الأوربية السابحة في فلكها الاقتصادي.

قبل أكثر من ستة عقود، ظهرت حركة دول عدم الانحياز كمحاولة للنجاة من قِبل الدول المستقلة حديثاً، أو التي في طريقها إلى الاستقلال، من هذا الاستقطاب الكوني القاتل لسياداتها ومشاريعها الوطنية التحررية، غير أن زخم هذه الحركة تراجع كثيرا لعدة أسباب، أهمها: اعتمادها على شخصيات الزعماء المؤسسين في تناغم طبيعي مع الروح الشرقية التي يحل فيها الزعماء بدل أداء المؤسسة، بالإضافة إلى تفكك أحد أهم أعضائها المؤسسين، يوغوسلافيا، وإشعال عدة صراعات عرقية ومذهبية في مناطق عديدة من العالم الثالث جعلها تنشغل بأزماتها الداخلية، وتغير الخارطة السياسية الاقتصادية الدولية عندما تحول بعض أعضائها مثل الهند والصين والبرازيل إلى مراكز اقتصادية كبرى في العالم، وهي الدول نفسها التي أسست حركة جديدة في العام 2006 (حركة بريك)، التي تتجمع فيها ثلاث دول صاحبة أسرع نمو اقتصادي في العالم، الهند والصين والبرازيل، حول روسيا المتبقية من القطب الثاني للحرب الباردة السابقة، والناهضة اقتصاديا وعسكريا بقوة، وبانضمام جنوب أفريقيا أصبح اسمها «بريكس»، التي تسعى بقوة لكسر هيمنة الغرب على الاقتصاد العالمي، وحققت خلال السنوات الأخيرة نمواً مطرداً تؤكده الأرقام، مما جعل هذه المجموعة محط اهتمام العديد من دول حركة عدم الانحياز التي بدأت 22 دولة منها تتقدم بطلبات للانضمام إلى هذه المجموعة، من بينها أكبر الدول العربية: الجزائر ومصر والسعودية، بعد أن فهمت أن نزعة عدم الانحياز فكرة رومانسية أكثر منها واقعية، وأن على دولها الآن أن ترمم قوة الحلف الشرقي في مواجهة الهيمنة الغربية وشروطها القاسية على الحلفاء الضعاف، خصوصا مع الحرب الروسية - الأوكرانية التي أدت إلى حالة استقطاب حادة أحرجت الدول الحليفة للغرب، ومحاولة إدماجها في سلسلة العقوبات القاسية على روسيا، غير أن بروز مجموعة بريكس وإرهاصات نظام عالمي جديد أظهرا ربما للمرة الأولى حالة تمرد على الإملاءات الأمريكية من قِبل أقوى حلفائها التقليديين الذين قاسوا مرارة وضع كل البيض في سلة واحدة مثل: الهند والمكسيك والبرازيل والأرجنتين والسعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة وباكستان وإندونيسيا والجزائر، وحتى من أدانت منها الغزو بشكل يحفظ ماء الوجه رفضت الالتزام بالعقوبات المفروضة على روسيا، وهي قائمة تشمل دول بريكس وبعض الدول المتقدمة بطلبات انضمام إليها. كل هذا يشي بانقلاب جذري في النظام العالمي في السنوات القليلة القادمة، خصوصا أن هذه المجموعة تعتمد خصوصا على الاقتصاد كركيزة لتحالفها، وقد يحدث يوما أن تشكل حلفا عسكريا شرقيا في مواجهة حلف الناتو، كلُّ دوله من خارج أوروبا بعكس حلف وارسو السابق.

تشكّل المجموعة الحالية من دول بريكس الخمس نحو 40% من مساحة العالم، ويقطن فيها نحو 40% من سكان الأرض، وتكشف الأرقام الصادرة تفوق هذه المجموعة في إسهامها في الاقتصاد العالمي بـ32% على مجموعة السبع التي توقفت إسهامها عند 31%.

ومع اندفاع قوى اقتصادية مهمة أخرى نحو الانضمام لبريكس، يتوقع أن تكون القوة الاقتصادية الأولى خلال العقد القادم، وقادرة بقوة على التصدي لأي عقوبات غربية، بل قادرة على فرض عقوبات مهلكة، على شكل عقاب تاريخي على الاقتصاد الغربي الذي يبدو أنه أوقع نفسه في مأزق عبر قرون من التعالي والإجحاف واحتقار العالم الآخر، في ظل خرافة حسم الصراع ونهاية التاريخ. أما أفق الصراع السياسي بليبيا فيبدو أنه يميل إلى وضع كل البيض في سلة الغرب، مع أن معظم دول المركز العربية، أو الدول المجاورة لليبيا، تتجه صوب بريكس، التي تحاول للمرة الأولى أن توازن كفة ميزان القوى الكوني بين حلف ثقله غربي وحلف ثقله شرقي، أو بالأحرى، شرق جنوبي في مواجهة غرب شمالي.