Atwasat

(نون) (2-2)

محمد عقيلة العمامي الإثنين 24 يوليو 2023, 02:39 مساء
محمد عقيلة العمامي

في أواخر الستينات ومطلع السبعينات، كنا طلبة في كلية الآداب بقسم اللغة الإنجليزية، وكنا مأخوذين ومبهورين بالغرب، وحرية آرائهم، وأفكار مبدعيهم، وبدأنا نقرأ بجهد كبير الروايات العالمية الأميركية والإنجليزية باللغة التي كُتبت بها، من بعد أن كنا قد قرأنا ترجمة منير بعلبكي لها باللغة العربية. كانت الطريقة التى يقدم بها أساتذة الأدب الإنجليزي مريحة، وساعدتنا كثيرا منذ أن درسنا، كمجموعة، رواية توماس هاردلي الشهيرة «Tess of the D'Urbervilles».

كان مستر جونس، أستاذ الشعر الإنجليزي، من فوق نظارته الطبية السميكة المرتكزة، على الدوام، فوق أرنبة أنفه، يفسر لنا وببطء شديد كل ما من شأنه توصيل المعلومة، والكلمة ودقة لفظها. وقال أكثر من مرة إن قصيدة الشاعر وليم بليك «الشجرة المسمومة» (Poison Tree) هي واحدة من أبلغ القصائد العالمية، ذلك لأنه وظف حرفا واحدا ليجسد الأفعى التي أغرت سيدنا آدم بأكل التفاحة المحرمة، فهي تحببه في قطفها، إذ تقول له
(I sunned it with smiles and with soft deceitful wiles) برقة ودفء إنها أنضجت التفاحة بود وبنوايا طيبة، مستخدما على لسان الأفعى حرف «السين» المتكرر في أغلب كلمات البيت، وموحيا من خلاله بفحيحها!.

لم أنتبه في ذلك الزمن أن هذه البلاغة في توظيف حرف «السين» بالتحديد، لتوحي بفحيح الأفعى، قد أعلنها القرآن الكريم بقوله في محكم آياته: «قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس» صدق الله العظيم. فالآية الكريمة تتكون من 20 كلمة، ويتكرر فيها حرف «السين» تسع مرات! يعني نحو نصف عدد كلماتها، فظل فحيح الأفعى، أي الخناس، يتواصل عبر جُمل الآية كلها من خلال تكرار حرف «السين».

ذلك كله يعود بنا إلى القَسَم العظيم الذي ورد في القرآن: «(نون) والقلم وما يسطرون..»،

فكما نرى أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بالقلم. مطلق القلم ومطلق ما يسطرون به، وهو المكتوب، فإن القلم وما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهية التي اهتدى إليها الإنسان، إذ يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار والمعاني المستكنة في الضمائر، وبه يتيسر للإنسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد.

الخلاصة، أننا تناولنا ثلاثة أحرف: الأول استُخدم لمنح البيت في قصيدة «الأطلال» فخامة، وإن كنت أرى أن استخدام طائر الشوك يعطى معنىً مؤثراً للغاية هو الآخر، والحرف الثالث، لو ظل بالمكان الذي وضعته فيه الشاعرة لجعل التشبيه أكثر قوة وتأثيراً، وهو حرف «الباء» في الكلمتين. «قبلي» قبل حرف «اللام» حيث وضع أساساً، و«قلبي» حيث وضعه المطرب، فتغير المعني كثيراً. أما الحرف الثالث فهو، بالتأكيد، دلالة رائعة على بلاغة القرآن الكريم.

وأخيراً.. إن الحرف مهيب ومقدس وخطير، وما كان للقرآن الكريم أن يتخذ منه قسماً لو لم يكن كذلك!!.