Atwasat

الرغيف المغشوش

رافد علي الجمعة 14 يوليو 2023, 01:33 مساء
رافد علي

قضية الرغيف المغشوش ظاهرة تجتاح الدول التي ينهشها الفساد والتحايل على القانون. ومن صور الخبز المغشوش أن يقل وزنه وفق المنصوص عليه في القانون واللوائح الإدارية، أو أن يصنع من دقيق منخفض الجودة خلافاً للمعايير المعتمدة. ظاهرة الخبز المغشوش ظاهرة مقلقة للمواطن، وللسلطات في الدول الحريصة على أمنها الغذائي والمهمومة مؤسساتها بحيوية مكافحة الفساد على أراضيها باعتباره (الفساد) وباء يفتك بالسيادة بالمعنى العميق.

الخبز المغشوش حالة تمس أكثر السلع بساطة وشيوعاً كونه يعد غذاء رئيسياً لمعظم شعوب العالم، بما يعكس أن الغش في الرغيف كاشف عن فداحة الفساد وتغول التدليس في السوق المحلية. يشهد التاريخ أن هناك حالة ارتباط وثيقة بين استقرار الإنسان ورغيف الخبر، وذلك بعد أن عُرفت الزراعة، واستهدى البشر لطحن القمح البري. في العام 450 (ق. م) نجح الرومان عبر اكتشافهم الطواحين المائية في نقل صناعة الرغيف إلى شكل من أشكال الفن.

وتم في تلك الحقبة تقنين صناعة الخبز للسيطرة على أوزانه وأشكاله وأنواعه ومذاقه، وميز القانون الروماني الخبازين بأنهم عمال أحرار تمييزاً لهم عن سواهم من العمال العبيد بكونهم صناعا «لسلعة استراتيجية» تمس قضايا الجوع في المجتمع، ومرتبطة بهمة جيوش الإمبراطورية، لإدراك نخب روما حينها أن «الجيوش تسير على بطونها».

قبل الثورة الفرنسية عاصرت فرنسا اضطرابات الخبز، اتُهمت خلالها النخب الحاكمة بالعمالة للأجنبي، لأنها طبقة تأكل الخبز الأبيض المخمر بخميرة مستوردة من بلجيكا، في حين أن خميرة خبز العامة؛ التي كانت تتغذى على الخبز الأسود الرخيص، كانت محلية وسيئة الصنع. وتشير بعض السرديات التاريخية إلى أنه في العام 1775 هاجم جمع من الفرنسيات في ضواحي باريس خبازاً باع الخبز الأسود بسعر الخبز الأبيض الراقي، وفي فورة غضبهن تلك انتقلن لبلدة مجاورة لمهاجمة آخر يتلاعب بالرغيف، واندلعت الفوضى بالأرجاء على مدى السنوات اللاحقة لتأزم الرغيف بالبلاد مما اعتبر هذه الأحداث بمثابة الإرهاصات البكر للثورة الفرنسية. بل إن القانون البريطاني للعام 1266 أجبر الخباز على وضع توقيعه الخاص على كل قطعة خبز يصنعها لسهولة التعرف على المخالفين.

عاصرت الأجيال الراهنة في ليبيا أطوار تدهور وتقلص الرغيف الليبي وصولاً لأزمة الخبز المسموم منذ أسابيع مضت، شهدت خلالها البلاد جدلية بين أطراف المشهد السياسي وما صاحبها من اتهامات سياسية وتخوين وإجراءات قانونية تسعى لتقصي حقيقة ووضعية الرغيف الليبي، ما يكشف عن مدى انغماسه فى سياستنا الرديئة والعاقر لخلق استقرارية راسخة في بلاد لا تزال، رغم التهدئة، تعيش على كف عفريت.

رغم تأكيدات نقابة الخبازين في ليبيا إبان تلك الأزمة بأن «الرغيف يُصنع مطابقاً للمواصفات العالمية»، إلا أنه من الجلي ليبياً بأن الرغيف بالبلاد، أحياناً كثيرة، يبدو هزيلاً في شكله ومتقلصاً في هيئته ووزنه، بما يحوي بأن الفوضى والعبث تمس تفاصيل وجوده على المائدة الليبية، التي من الواضح أن سياسة الأمن الغذائي الليبي تمر بأزمة هي الأخرى مع عموميات العبث والفوضى والفساد والتسيب الإداري.

الرغيف اليوم أصبح مهارات يتفنن في صناعاتها العديد من أهل المخابز للحفاظ على معاييره وهويته ومذاقه، وتحرص بعض الدول على حمايته كتراث وطني. فرنسا نجحت منذ أشهر في جعل الباغيت الفرنسي محمياً دولياً وفق معاييرها الوطنية، بكونه فرنسي الأصل والميلاد في فترة حرب نابليون على أوروبا. إلا أنه من الواضح اليوم في السوق الليبية أن الرغيف صار محل غش وتلاعب وتدليس، بل إن المهارة في صنعه أضحت من الثانويات، فالعمالة الوافدة قادرة على سد أي ثغرة في سوق العمل الغارق في فوضاه وعدم التنسيق!

من اللافت للانتباه أن فترة حكم القذافي التي وجهت إليها الاتهامات بالبدونة لكل شيء، قد خلت تلك العقود من أي إجراءات لحماية خبز التنور والخبز الملطوط باعتبارهما أنواعاً وطنية ليبية سائدة في المدن والبادية، بل ظل باغيت نابليون هو السائد، و«العشرة بربع»، لأنه كان رغيفا مسقوف قانوناً، وليس كما حال اليوم، إذ فقد الرغيف ملامحه وتبهدل مظهره، وهو ينتظر وصول المرسيدس لإيصاله لليبي الواهم برفاهية في وطن لا يزال محض فوضى ووعود سراب.

خبزنا اليوم حتى وإن رفعت عنه صفة المغشوش فهو خبز رديء يعكس تفاصيل مهمة عنا وعن أبعاد واقعنا، وتكشف الأزمة فيه ومعه، عن عدم نجاعتنا في صيانة أعطابنا. بعض الأشقاء العرب يطلقون على الخبز في دارجتهم اسم «عيش» لالتصاقه بالحياة كعنصر وكمكون، فما طعم الحياة بخبز رديء ومغشوش ضمن سياسة تمييع الأحوال لتوسيع هامش الربح المشبوه ببلد أضحت سلعه التموينية المدعومة تُهرب لدول الجوار كفضيحة يتحدث عنها اليوم الأعاجم قبل الأشقاء. فأي خبز هذا!! وإلى أين نحن نسير؟!
في قصة الرغيف للأستاذ أحمد يوسف عقيلة يوصي التنور قطعة الخبز الملتصقة بقفاها بداخله لتطهى قائلاً:
«هناك طريقة واحدة لتأخير النهايات.. تخل عن صمتك.. ما دمت قادراً على الحكي فإنك لن تموت».