Atwasat

.. وفقدنا أزيار القديد

محمد عقيلة العمامي الإثنين 03 يوليو 2023, 11:29 صباحا
محمد عقيلة العمامي

من أقوال أحد أبرز الكتّاب في الأدب العالمي المعاصر، الكاتب الروائي الأميركي وليم فوكنر: «الماضي لا يموت، بل إنه لا يعد أبدا ماضيا». لقد تميز السرد في أعماله بـ «تيار الوعي، والابتكارات اللغوية، والرسم الحيّ للشخصيات، وتعدد زوايا النظر..»، وتوجت أعماله العام 1949 بجائزة نوبل للأدب، وقالت عنه الروائية الكندية مارجريت أتوود، صاحبة حوالي 17 رواية، منها اثنتان ترجمتا إلى اللغة العربية: «إنه لم يخترع شيئا من عنده، بل كان يصف ما يراه!».

وبالطبع الرؤية ليست تلك البصرية فقط، ولكنها الرؤية المعرفية التي أنارت عقل المرحوم الدكتور طه حسين على سبيل المثال وليس الحصر.

وكلما حل عيد الأضحى المبارك تداعت الرؤية البصرية التي وصف بها الكاتبان الليبيان العملاقان المرحومان صادق النيهوم وخليفة الفاخري طقوس ذبح أضحية عيد الأضحى. منذ عشرين عاما كتبت عنهما كتاب «قطعان الكلمات المضيئة»، ومن بين مواضيعه كيف وصفا، وانتقدا، طقوس هذه المناسبة.

وأذكر أيضا أنني تناولت حادثة (لم أخترعها، ولكنني وصفتها كما سمعتها ورأيتها) لها علاقة مباشرة بهذه المناسبة، ففي ليلة عيد الأضحى منذ سبعين عاما، جاء والدي (سي عقيلة) بخروف العيد، وما إن جلس حتى شكرته أمي، ثم أحضرت له صحن العشاء، وكان أرز «جاري» بقطعة صغيرة من شحم قديد، وضعته أمامه، وقالت له بود واضح: «وراسك - يا عقولة - أعددت هذا العشاء بآخر ملعقة من قديد شاة عيد السنة الماضية!».

ولقد استهللت مقالة «كبش العيد» في كتاب «قطعان الكلمات المضيئة» الذي أشرت إليه بالآتي: «لولا الشحوم التي تذوبها النسوة من شاة العيد، التي تقطع وتنشرها في الشمس ثم تقدد ويحتفظ بها في زير مخصص لذلك، لتُفوّح به الوجبات التي تعتمد في الغالب على البقول، لقلنا إن الشعب الليبي ظل نباتيا حتى منتصف الستينيات، لأن الفقر الذي قال عنه صادق النيهوم: «لو كان رجلا لمات من الجوع»، هو الذي جعل اللحم رفاهية لا يقدر عليها غالبية السكان». سنة 1952 بعد استقلال ليبيا مباشرة، صنفت الأمم المتحدة ليبيا كثالث أفقر دولة في العالم.

ويصف صادق النيهوم حاله صباح يوم عيد الأضحى، فيقول: «عندما وصل الحاج الزروق إلى بيتنا، لكي يذبح لنا كبش العيد خلال جولته الدموية بين بيوت الزقاق، كنت أنتظره وراء الباب مسلحا بحجر صواني، وكنت أنوي أن أكسر رأسه بذلك الحجر، وأنهي معه معركتي اليائسة التي خضتها ضده ثلاث سنوات دون أدنى فائدة.

فقد كان الحاج الزروق يناصبني العداء، وكان يحضر إلى بيتنا مرة كل عام، لكي يذبح الخروف الذي أنفق في تربيته معظم وقتي. يبقر بطنه ويعلقه في السقيفة مقلوبا على رأسه، ثم يضع البطانة في قفة ويذهب إلى البيت المجاور..».

أما الفاخري فوصف الموضوع نفسه، ولكن برؤية أخرى، حيث قال: «هذا هو عيد الأضحى.. أجل هذا هو عيد الأضحى، والناس يعبرون طرقات المدينة حاملين سكاكينهم القديمة لشحذها، أو يبتاعون سكاكين جديدة، ولقد تذكرت على الفور أنني بكيت -عندما كنت صغيرا– كما لم أبك من قبل. كنت قد أنفقت مدة طويلة في العناية - حينذاك – بخروف العيد. كنت أحمله إلى البحر كل يوم، وأقوم بغسله هناك إلى أن يصبح كلي البياض مثل عين الشمس، وكنت أقدم له كل ما لدي وأحمله معي أينما ذهبت، فيما ظللت أباهى أمام الآخرين حين يرونه متتبعا خطاي في الطرقات بانسياق كامل مثل جرو ودود. كانوا - في البيت - يدعوني أعتني به كيفما أشاء، ولكن عندما يأتي العيد، لم أجد ثمة من يعير بكائي المفجع أي اهتمام.

لقد قاموا بذبحه أمامي، وظل ينتفض مثل قلبي إلى أن بات في وسعي، بعدئذ، أن أرى شرائح لحمه المسودة معلقة طول حبل الغسيل. كانوا قد ضحوا به من أجل أن يأكلوه. وكنت أضحى بأكلي من أجل الخروف. أي عيد دموي هذا الذي يحتفل الناس فيه بقتل صديق لك، يلتهمون لحمه أمام عينيك الدامعتين!؟».

الفرق بين أعياد طفولتنا وأعياد هذه الأيام أن الخروف في الغالب يصل إلى البيت قبل العيد بيوم أو يومين بسبب طبيعة المساكن أولا، وهي التي أصبحت في الغالب شققا، وأيضا الحالة الاقتصادية، إذ لا حاجة إلى أن يأتوا بالخروف صغيرا، لينمو في سقيفة البيت ببقايا كسر الخبز، وما يفيض من مخلفات إعداد الوجبات التي تحتاج إلى خضار. وبالطبع لم يعد في البيوت أزيار للقديد، فلقد أصبح يباع معلبا، ولا يعد من بقايا لحم الشاة.

عام رحل عنا، وأتطلع إلى أن نلحق بالقادم، وكل عام وليبيا والعالم العربي والإسلامي بألف خير بالقديد أو بدونه.