Atwasat

بيتنا والعيد وذاك الخروف البعيد..!

سالم الهنداوي الخميس 29 يونيو 2023, 06:15 مساء
سالم الهنداوي

.. جئنا إلى الدنيا لنجد العيد أمامنا ماثلاً بطقوسه في المدينة، فابتهجنا بأجوائه في بيوتنا وشوارعنا القديمة دون أن نسأل عن مغزاه في الحياة أو أن نهتم بحديث شيوخ الدين في منطقتنا عن التضحية والفداء والجنّة وآدم وحواء وسيدنا نوح، حتى بعد دخولنا المدرسة العام 1961 بالكاد عرفنا من مدرِّس مادة الدين من هو سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل، وربما أيضاً بعد دخولنا «الكُتّاب» في جامع «النخلة» عندما قصّ علينا الشيخ ميلاد حكاية منام سيدنا إبراهيم والكبش الذي أنزله الله فداءً لإسماعيل.

.. كُنّا في كُل درسٍ في طفولتنا نخرج بمعلومة دينية جديدة دون عناء سؤال، إذ كان اللهو هو هاجسنا وشاغلنا الأوفر في الشارع والمدرسة وحتى في الجامع، وكُنا نرى العيد بعيون الفرحة فقط بما نناله من كسوة جديدة وحذاء جديد وبالونات ملوّنة وزمامير وحلوى وشربات في بيوتنا وبيوت الجيران، وزردة في منطقة «القوارشة» على «كارو» احميدة حسن وحصانه الأشهب الذي لا يكُفّ ينفض «الشعران» بأذنيه وذيله طوال الطريق، أو الذهاب إلى حديقة الحيوان «البوسكو» لرؤية البط الذي يغطس بمناقيره في الماء وراء قطع الخُبز، والغزلان الواقفة في ثبات تنظر إلينا بعيونها الجميلة، وحمير الوحش التي تحتمي ببعضها، والقرود الضاحكة التي تتقافز على الجذوع اليابسة بأذرعها الطويلة، ورؤية أسود تتثاءب وقد شاخت في أقفاصها وهرمت.. وينتهي نهار العيد البهيج بنفاد النقود الحديدية من جيوبنا، والتي أنفقناها على مسدّسات الماء و«مستكة التصاوير» و«الجولاطي» ودخول السينما بأكياس «الفوشار» وقراطيس «الزريعة والكاكاوية»..

.. كان أهلنا يسمّون عيد الأضحى بالعيد «الكبير» أو عيد «اللحم»، وكذلك عيد الفطر بالعيد «الصغير»، وكان الفرق بينهما أننا في العيد «الكبير» نذهب إلى «أقواس الفندق» أو سوق الحدّادة لسنّ «الأمواس والسواطير»، فيما نذهب في العيد «الصغير» للكوشة نحمل طواجين الكعك والغريّبة.. ولكُل عيد رائحته في البيوت، فالعيد الصغير لرائحة الكعك والحلوى والشربات «الروزاتة»، بينما العيد الكبير لرائحة الشواء و«شفشفة» الرؤوس وتوابل «العصبان..».

.. في صباح العيد بعد الذبح كانت تمرُّ فرق أشبال وفتيان الكشافة بشوارعنا يجمعون الجلود لصالح برنامج حملة دعم الثورة الجزائرية، لكن بعض العائلات كانت تصنع منها «النطع» باعتباره من لوازم الجلسة الأرضية قبل غزو الإسفنج وصناعة المجالس «الطراريح».. وأذكر أنني كنتُ أساعد والدتي في دعك الجلد بالحجر الخشن لإزالة العوالق والشوائب حتى يصير أبيضَ نظيفاً فتغمره بعد ذلك بالملح وتشدّهُ جيداً إلى الحائط بأطرافه الأربعة مثبتاً بالمسامير وتتركه أياماً عُرضة للشمس والهواء.

وبعد ذلك تفرشه أرضاً وتبدأ في تنظيفه وتهذيب الصوف بمشط «الكرداش» حتى يبدو الصوف كالشعر الطويل المنفوش ناعم الملمس، ولتبقى مُتعة الجلوس عليه من ذكرى العيد.. وكان «النطع» وإلى وقتٍ قريب من أهم ما تنتجه أمهاتنا للجلسات الشعبية على الحصيرة في لمّات العائلة أو الجارات تحت عريشة العنب في الضُحى والعشيّة، حيث «نشّاشة» الجريد و«جرّة» الماء البارد طبيعياً، وحيث الشاي المنعنع على جمر الكانون مع الكاكاوية المحمّسة أو القليّة بالبطّوم وخبزة التنّور.. كما أن النطع كان يقينا برودة الأرض، ولا أروع من النوم على النطع والغطاء بجرد الأُم في ليالي الشتاء القاسية.

.. في ثالث أيام العيد كان حبل الغسيل وسط الحوش تحت الشمس يتدلّى بشرائح لحم «القدّيد» المتبّل و«عصبان الشمس» بلفائفه المغرية، وبعد أيام يدخل القدّيد الزير برائحة الشحم والبهارات، فلا يخرج إلّا في موسم الشتاء مع الأكلات «الجارية» كالحساء والمحمّصة والمقطّع، وهي الوجبات الشعبية سهلة التحضير والأكثر قبولاً في ليالي الشتاء.. وكان «الزير» المصنوع من الفخّار هو بيت ادخار اللحم المقدّد والذي يبقى شهوراً ويُمكن السفر به والترحال دون أن يتأثّر، كون هذه الطريقة في التخزين من التقاليد القديمة الموروثة منذ عصور.

إضافة إلى أننا كُنّا لا نتناول اللحم إلّا مرّة واحدة في الأسبوع ولم نعرف «الثلاجة» و«البوتاجاز» إلّا حديثاً، مكتفين بمواد الطبيعة الرائجة في ذلك الزمن، فالماء البارد كان في «الجرّة» المصنوعة من الفخّار، أو من «القربة» المصنوعة من جلد الماعز.. وكان طهو الطعام على مواقد الحطب أو الفحم، وهو ما كان يضفي على الطعام نكهة طيِّبة ويجعله لذيذاً.

.. نسيت أن أحكي لكم عن ذلك «الخروف» الذي ذهب رأسه إلى «الشفشفة» على نار الكانون من أجل وجبة «كسكسي»، واللحم الذي ذهب إلى الشواء و«طبيخة البطاطا» ودخل «الزير» مع الشحم والملح والكركم، وكرشته التي ذهبت للعصبان، وجلده الذي أصبح نطعاً وثيراً نجلس عليه وننام.. ذلك الخروف كان صديقي الذي عرفته صغيراً قبل عام وشبّ على يديِّ، أطعمه من كفّي ببعض الشعير وبكسر الخبر اليابسة، وأسقيه بماء «الماجن» وأشرب معه، ودون وثاق كان يمرح معي في البيت وفي الشارع.

وكان برفقتي مع الأصدقاء إلى البحر نسبح معاً في «بئر الكلبة» ونعود منتشين بقضاء أطيب الأوقات على شاطئ «توريللي».. حتى إنني لم أدعه يسرح مع الراعي «سعيد» الذي كان يجمع خرفان الجيران في الصّباح إلى «الزريريعية» ويعود بها في المساء في جلبة من الصياح والغُبار وتدخل بيوتها تركض كأنها أولاد.. ولم أكن أدري أن صداقتنا الجميلة تنتهي بسكين في صباح يوم العيد.