Atwasat

صهيل الجواد الأخير

سالم العوكلي الثلاثاء 13 يونيو 2023, 01:35 مساء
سالم العوكلي

العام 2001، أصدر السيد عبد الرحمن شلقم (وزير الخارجية آنذاك) قراراً بندب صديقه الشاعر الجيلاني طريبشان، في أيامه الأخيرة، إلى المركز الثقافي الليبي في كاراكاس بفنزويلا، كمبادرة، تأخرت كثيراً، لإخراجه من نفق العتمة والفقر الليبي الذي كان يعيش فيه متوتراً وتائهاً بين القصيدة والعيش.

فرح بهذا القرار واستعد له بهندام رسمي جديد، فارتدى بدلة أنيقة كأي دبلوماسي موعود بالإبحار بعيداً، متنقلاً بحقيبته السمسونيت التي اشتراها لهذه المهمة، ولا يخفي ابتهاجه بمغامرة مرفهة في أصقاع الدنيا مختلفة عن مغامراته السابقة التي تنقّل فيها متشرداً بين الجزائر والقاهرة وبغداد ولندن ودبلن.

وأصبح كلما يلتقى بواحد منا يرجوه أن يلبي دعوته ولا يخذله حين يدعوه لأنشطة المركز الثقافي في تلك المدينة خلف المحيط الأطلنطي، ودخل في متاهة بيروقراطية وهو يجدد جواز سفره ويرمّم هويته الليبية، وفجأة، وهو في ذروة الحماس، ظهيرة 2 يوليو 2001، توقف قلبه حين كان في أحد مساجد الرجبان يودع أحد أقاربه، أحنى رأسه بين طيات مصحف وقال كلماته الأخيرة «يا إلهي قليلاً من الراحة».

وانقضّ الخبر على الوسط الثقافي الليبي كالصاعقة.

في أول زيارة لي لطرابلس بعد رحيله، وجدتُ الاستراحة التي طالما صادفته فيها في مقر رابطة الأدباء والكتاب الليبيين خاوية على أحزانها، ورفقة الروائي الأرتيري أبوبكر حامد كهال، رفيقه وراعيه المقيم وقتها هناك، كنا نتتبع طيفه الساري في المكان، وننصت لأشباح صوته الأجش حين يعنّ له أن يلقي شعراً أو يشتم الدنيا وحظه العاثر، وكانت طرابلس ناقصة، كأن تزورها ولا تجد السراي الحمراء أو قوس ماركوس.

وكان الجيلاني السائر على غير هدى في شوارعها بانحناءته المهيبة، ولفافة التبغ التي لا تفارق أصابعه، ضميرَ طرابلس وإثمَها في الوقت نفسه، ولم أعرف شخصاً آخر وزّعَ الحزن بهذه العدالة على المثقفين والمبدعين الليبيين برحيله كما فعل الجيلاني، وبسيرة حياته التي تشبه تراجيديا يونانية كان يمثّل لوعة الفقد في روح كل واحد منا.

وكنا ندرك أن هذا الشاعر الذي تحولت حياته برمتها إلى قصيدة لا تنتهي يجسد الإنسان في أقصى درجات تحققه الأخلاقي والجمالي، لا يعرف نميمة ولا يحمل ضغينة تجاه أحد، واستطاع أن يجمع في براح قلبه هذا الكم المتناقض من الأصدقاء من كل الأمزجة والمشارب، فكان طيف التسامح الذي يمشي، بكل صمته الضاج، في قلب الزحام على أرصفتها باحثاً في مقاهيها عن وجه أليف، يرى الجميع ولا يراه أحد، وعلى كرسي معزول في أي مقهى شعبي رخيص كانت الأوراق تتحول في يديه إلى ملعب أسطوري لتجلياته الشعرية التي تغرف المجازات من سيرة الوجع وأحلام يقظته، ولرسوماته المهوِّمة حول شعره تتبع أثر الفرح المراوغ في حياته التي لم يبارحها القلق أبداً.

في إحدى زياراتي لطرابلس رفقة أحمد الفيتوري وإدريس المسماري وأحمد بللو، وصلنا أمام فندق أجنحة الشاطئ المقابل لمقر رابطة الأدباء في ساعات الفجر الأولى، وكانت طرابلس ساكتة إلا من صوتٍ واحدٍ أجش هبط علينا من شرفة الرابطة يقول: وصلتم أيها الأوغاد؟ وحين رفعنا عيوننا كان الجيلاني الذي لا يعلم بقدومنا في الشرفة يومض كيراعة وكأنه ينتظرنا، هو الذي قضى عمره انتظاراً لمن لا يصل أبداً. وفي غرفته في ذاك الفجر أخرج ألبومه الصغير وأطلعني على صور أبنائه وبيته الذي وصفه بمملكة الفقر، وكأي ناسك في مختلاه كان مولعاً بهذه المملكة الصغيرة في رجبانه التي «ليس فيها من الأطلس سوى الحجارة» ومولعاً بأصدقائه الذين طالما انتظرهم في شرفات الدنيا، وبالنساء المؤجلات في قصائده أو المستحيلات في رسومه.

في جمعية بيت درنة الثقافي أحيينا ذكرى أربعين الجيلاني (11 أغسطس 2001)، وأمام لوحة بورتريه له رسمها الفنان عادل جربوع، ألقيتُ كلمة التأبين التي تمنيتُ أن لا أكتبها أبداً، استهللتُها بهذا المفتتح من شعره «رافقتك السلامة في آخر العمر/ تقرأ في كل صبح ضجيج جريدتك الموسمية/ تتعب من وخز الضمير/ ومن لفتات الجواد .. الصهيل الأخير».

في آخر العمر كان جيلاني المكابد شغف العيش يستغيث ملء حيادنا، مرتبكاً يحط كل مرة في عيون صديق. كان ينزف بوحاً أو يصمت معطياً بظهره المحني للعالم والكلام جمر في داخله. هنا في درنة كان يسبح في الزحام كأغنية حزينة، قلِقاً يعلن بهمسٍ توقه الأزلي إلى مدن لا تسخر من هذيانه. كان هنا في آخر مشاركاته الإبداعية يحيي معنا ذكرى مرور خمسين عاماً على رحيل الشاعر إبراهيم الأسطى عمر (2001)، ولم نكن نعلم أننا هنا وبعد شهور قلائل سنحيي ذكرى مرور أربعين يوماً على رحيله.

كان متلبَّساً بهذه المدينة في آخر أيامه وكأنه اكتشف ملامحه من جديد في مرآتها، لذلك كان لإقامة هذه الأربعينية بمدينة درنة معنىً خاص، وهي محاولة لاستعادة ظله المتناثر على جدرانها والباحث فيها عن زمن قميصه المشجَّر، وفي الوقت نفسه محاولة لتكريسه شاعراً ليبيّاً حتى النخاع. الذي كم تغنّى بـ «ليبيا المقدسة» كما يصفها مراراً.

يحبها حين يغادرها إلى المحطات البعيدة، أو حين ينام على أرصفتها القديمة. يحبها حين يجوع أطفاله على مرأى من آبارها النفطية.. يحبها حين يشتمها بحنان كطفلة عاقّة. إنه لا يملك إلا أن يحبها، ولا نملك بالمقابل إلا أن نعتذر له عن الزمن الذي ضيعناه في إعراضنا عن عذابه النبيل، وعن عيوننا المغمضة عن وميض الحزن في عينيه الصغيرتين، عن المواعيد التي أخلفناها معه، وعن أوقات تبرمنا من هذيانه الذي كان نزيف قلبه في آخر العمر، وعن جحود هذه الأرض الوعرة نعتذر.

هذا الشاعر الذي دائماً ينتشر فينا، من ربوة قبره في الرجبان إلى هذه الأمسية في بيت درنة الثقافي، أربعون يوماً هي التاريخ مكثفاً في غيبة الشاعر، وألف ميلٍ مسافة من الحب اسمها ليبيا، عششتْ في قصائده وخطاه. من أجلها كابدَ، ومن أجلها نحتفي بشاعرها الجليل جيلاني طريبشان الذي لم يتنازل عن كبريائه، ولم تتحول قصيدته إلى أداة للتكسب والارتزاق رغم الشظف والفخاخ.

وقبل ذلك، أذكر أني، بعد يومين من علم خبر رحيله، كتبتُ بخط اليد في ورق متناثر: جيلاني.. لماذا ترحل والشعر مازال يتنفسك؟ لماذا تسوق الغيوم بعيداً عن متناول قصائدنا المنصتة لرعدك؟.

في القرى البعيدة نتفرس في ظلك المنكسر على أرصفة المدن التي عبرتها وسط الزحام وحيداً متوحداً، وأنت تسأل كل ساعي بريد عن رسائلنا المؤجلة، وتحترق كعود البخور في قلوبنا.

كنتَ تسأل عن مدينة لا تثير فيك عواصف الرمل أيها الرجباني النحيل الذي تسكعت في الشوارع وفي جراحنا، واصطدت القصائد في شواطئ الغربة من عيون العابرات أحلامك بكعوب كأنها تمشي على أهدابك، وكنت تسأل عن الأصابع التي يعنّ للشعر أن يلتقط أنفاسه عند حافتها، تتضرع بالخراب وبالأصدقاء وبالليل الذي يقتات على كوابيسك، وفجأة تذبل حقيبتك وربطة عنقك على مرمى حلم من كاركاس البعيدة.

كان مُرّاً عبورك في هذه البلد التي استنفدتْ أعصابك وجلد حذائك.. مُرٌّ حضورك وأنت تكابد هذا الوطن القاسي بالتبغ والمشي والشعر، وتلوذ بسكينة الرجبان كلما حاصرك الخوف، وبأطفالك الطالعين من استعارات قصائدك الخائفة. فلماذا ترحل أيها المارق القديس ونحن في أوج العطش لبراءتك المشاغبة.

أيها الجواد المُنهك في طرقات الشمس الموحلة.. أيها الطفل المعتق الذي ما زال يتلعثم في البوح برغباته الصغيرة، وما زال يخترع شكل الرغيف ويرسم في الغرف المعتمة شبح أنثاه الأسطورية التي لا تصل أبداً. نريدك الآن بشدة، في هذا الزمن الذي تهرم فيه الدهشة وتتوحش فيه الأوطان أمام حلم الشعراء.

في هذا الزمن الذي يتقوّض فيه الجمال وتتنهد فيه الوسائد تحت كوابيسنا. نحتاجك أيها المؤثث بالأوهام النبيلة حتى الثمالة. نحتاج هذيانك المتعب وقصاصات أوراقك المتروكة على عجل في الغرف الكالحة التي مررت بها.

متعباً ويائساً تطويك المسافة ما بين الزحام في المدن الضد، وبين الذوبان في مملكة الفقر بقريتك المتكئة على الجبل، في الرجبان التي لم ترَ شدة بريقك إلا بعد أن رحلْتَ واكتظتْ المقبرة بدموع أصدقائك من كل المدن والقرى.

لن أستسلم لهذا الخبر الذي ينأى بك بعيداً يا جيلاني، ولن أتخلّى عن ذاك الوعد الحميم وهو يبرق في عينيك الصغيرتين، سأنتظر رسائلك من كاراكاس، وأتبع أثر قصائدك الطائشة في الصحف اليومية، وأنتظر قامتك وهي تبزغ من شرفات لا نتوقعها، سأنتظرك تهطل في كل مجاز، تضيء عتمة أرواحنا بنور العذاب المقيم فيك، سنمتص ظلك المتعب إلى قصائدنا وهي تتقصّى آثار خطاك وأنت تمضي صوب الشمس بجناحين من الشمع، ونزهر فيك كما يزهر الصبار في قلب العطش والقيظ.

فلماذا ترحل في اللحظة التي كنا نرى أنك تبدأ من جديد؟ تباً.. هذا العالم يضيق يضيق كلما يغادره شاعر.