Atwasat

الانتخابات التركية: اللي شبكنا يخلصنا

سالم العوكلي الثلاثاء 16 مايو 2023, 08:25 صباحا
سالم العوكلي

ينتهي الكرنفال الانتخابي التركي دون مفاجآت ودون أن يطرح جديداً، وعلى غرار الموضة السياسية الدارجة الآن في العالم، والعالم الغربي خصوصاً، يفوز اليمين في هذه الانتخابات.

اليمين المتشكل فيما يُسمى تحالف الشعب (يُترجم أحياناً تحالف الجمهور) من القوميين الراديكاليين ومن الإسلامويين المتطرفين (وأعني هنا بوصف الإسلام المتطرف قياساً على الإرث العلماني المؤسّس لهذه الديمقراطية) في منطقة الشرق، وهذا المشهد الذي يديره الإسلاميون يشبه في الواقع راية إسلامية ترفع على صارية ثبتتها العلمانية في الأرض.

تنقل تفاصيل هذه الانتخابات على الشاشات في عرضٍ يتابعُه العالم على غرار الانتخابات الأميركية، خصوصاً بعد أن تحولت ديمقراطية تركيا إلى شبيه للولايات المتحدة منذ أن أصبح نظام الحكم رئاسياً عام 2018، وهي الانتخابات التي تستخدم معادلة الرئيس الأميركي جيفرسون المنقحة عن طريق عالم الرياضيات البلجيكي «دونت» لتحديد نِسب التمثيل النيابي وتوزيع المقاعد في أعلى سلطة تشريعية أو ما تسمى «معادلة دونت جيفرسون».

رغم هذا المشهد الأخّاذ والإقبال الكبير على هذا الاستحقاق إلا أنه مشوب بعشرات الألوف من المعتلقلين السياسيين وسجناء الرأي القابعين بعيداً عن هذا المشهد، وهم آلاف من النخب التركية الممثلة للدولة العميقة الذين تم التخلص منهم عقب الانقلاب الفاشل عام 2016، ومعظمهم معتقل بتهمة دعم الإرهاب رغم أنهم أكاديميون ومعلمون ومحامون وقضاة وضباط ومثقفون وصحفيون وناشطون في حقوق الإنسان، حيث اتّخذ الحزب الحاكم في تركيا نهجاً بوضع كل مجموعة معارضة له جذرياً في قائمة الإرهاب، وتحت شعار «من ليس معنا هو معهم» اتّهمت كل مخالف بدعم الإرهاب كما يحدث في ديمقراطيات الدول العربية الفصيحة.

يقول منظّر أخلاق السياسة للنظم الاستبدادية والنظم شبه الديمقراطية على حد سواء، مكيافيلّي: «إذا أردت أن تقضي علي مُنافسيك وأن تبرز قوتك للجميع، اخلق انقلاباً وقُم بالقضاء عليه» وهذا تقريباً ما حدث في تركيا عبر تلك المسرحية التي تابعناها ليلة كاملة مثلما نتابع الآن الانتخابات طيلة الليل، وفي صباح اليوم التالي قُضي على الانقلاب وعادت الأمور كما هي لتبدأ ملحمة تصفية الخصوم الأقوياء من ممثلي الدولة العميقة وقيم الدولة العلمانية التي أرساها أتاتورك، وكانت شرطة الحزب كفيلة بالسيطرة على هذا الانقلاب الجزئي، على غرار تلك القوة التي شكّلها البشير في السودان بقيادة محمد دقلو كي تحميه من المؤسسة العسكرية، ولتبقى المعارضة الحالية أو ما يُسمى «تحالف الأمة» التي تسير في فلك الحزب الحاكم مع اختلافها في بعض التفاصيل التكتيكية التي تسعى لجذب الناخب، كمسألة اللاجئين أو إعادة هيكلة الدولة على أساس الجدارة، وهو أمر لا يختلف عن برنامج حزب العدالة والتنمية إلا في الكيفية.

المشهد شبيه إلى حد كبير بالانتخابات الأمريكية خصوصاً حين يكون المرشح شعبوياً، والفارق أنه لا توجد في سجون أميركا سجناء رأي من النُخب، ولا معارضين في المنفى تلاحقهم مخالب النظام، ومن الواضح أن إردوغان سيتمتع بالبقاء في سدة الحكم لخمس سنوات أخرى في فترة نهائية، سيكون فيها قوياً ومتحرراً من ضغوط انتخابات قادمة، ورغم ذلك لا أحد يستطيع توقع سياسات هذه الرئيس المتقلب في الفترة القادمة، خصوصاً فيما يخص السياسة الخارجية وما يتعلق بعلاقات تركيا بالدول الإقليمية التي شهدت في الشهور الأخيرة مهادنات مفاجئة، إضافة إلى ملف الصراع على الغاز في المتوسط، ومسألة ابتزاز أوروبا عبر المهاجرين.

الانتخابات البرلمانية حُسمت لصالح تحالف الشعب بينما الانتخابات الرئاسية أُجِّلت إلى جولة ثانية مع تقارب النتائج، لكن يبدو أنها محسومة لصالح إردوغان الذي لم يفصله عن الحسم في الجولة الأولى إلا كسر عشري طفيف، وبخسارة أوغلو الذي راهن على كونه كردياً علوياً سينتظر سجناء الرأي خمس سنوات أخرى قبل إمكانية الإفراج عنهم، وهذه هي المرة الثانية عشرة التي يخسر فيها أوغلو أمام إردوغان، وإردوغان هو الرئيس الثاني عشر منذ تأسيس الجمهورية التركية العام 1923، واتّسمت مرحلته الاثنى عشرية بالكثير من المنجزات المهمة، والكثير أيضاً من الاضطرابات التي أثارتها في المنطقة، خصوصاً فيما يتعلّق بالتدخل في مسارات ثورات الربيع العربي، والدعم المنقطع النظير لتيارات الإسلام السياسي وأجنحته المتطرفة في هذه البلدان، وما نتج عنه من ارتباكات في مساراتها الديمقراطية، ومن حروب أهلية كان للسلطات التركية دور حاسم في تغذيتها.

عقيدة الاثناعشرية في إيران المنطلقة من أسطورة غياب الإمام الثاني عشر؛ والتي أرساها مُنظّرها الخميني سياسياً، ما زالت تعمل في قلب ديكور مزيف من الديمقراطية على إرساء الدولة الدينية في مواجهة كل مخاوف العصر والحداثة التي تبشّر بها العولمة وما انبثقت عنها من ثورات تكنولوجية، وباعتبار إردوغان هو الرئيس الثاني عشر والإمام غير الغائب الذي يتصرف وفق أشواق الدولة العثمانية كخليفة غير مُتوّج للمسلمين، من الممكن أن نسمي مرحلته، أو مراحله، بالإثنى عشرية التركية، ورغم هذا المشهد السريالي المنقول على شاشات العالم إلا أن المحتوى لا يختلف كثيراً عن نظام ولاية الفقيه الذي هو أيضاً يعرض كرنفالاته الانتخابية في كل موسم استحقاق. وهي السريالية نفسها التي تُفضي إلى تحالف التيار القومجي مع التيار الإسلاموي في مفارقة عجيبة، تجمع بين نقيضين أيديولوجيين لا مشترك بينهما سوى استغلال كل طرف لقوة الآخر للبقاء في واجهة المشهد وانتظار الفرصة للانقضاض، وهو شبيه بالتحالف بين حزب الله الشيعي المتطرف بقيادة الإمام حسن نصر الله، والتيار الوطني الحر (العلماني) بقيادة الماروني ميشيل عون، وترويكة (سمك لبن تمرهندي) هذه، لا يمكن أن يستوعبها إلا مزاج الشرق الشهير بتقنيات التلفيق التي كانت دائماً تخلط العقل بالنقل، والبرهان بالعرفان، والدين بالسياسة، والعلم بالخرافة، والحابل بالنابل. وحين يشترط العمل الديمقراطي تحالف الأضداد بهذه الحدة فثمة خلل بنيوي كبير في محتوى هذه الديمقراطية التي تحركها تكتيكات مصالح شخصية وليس أنساق فكرية، أو برامج سياسية طويلة المدى، أو عقائد حزبية لا يمكن التنازل عنها، أو على الأقل يوجد حد أدنى للتنازل عنها.

لا أعرف الفارق بالضبط بين مصطلحي «الأمة» و«الشعب» إلا بكون الشعب مصطلحاً عبرانياً والأمة مصطلحاً إسلامياً، إلا أن الصراع بينهما كقطبين رئيسيين للعملية الانتخابية يخفي في الواقع صراعات حادّة داخل كل منهما، فداخل كل تحالف معارضته الجذرية. تحالف الأمة أو تحالف الطاولة السداسية الذي يتزعمه حزب الشعب الجمهوري، اليساري الاشتراكي، يوجد داخله حزب (الأجداد) اليميني المتطرف، إضافة إلى الأحزاب الدينية المنشقة عن حزب العدالة والتنمية، أو ما يُسمى بالأحزاب المجهرية، مثل حزب المستقبل وحزب (دواء)، وحزب (السعادة) المتحوّر عن حزب الفضيلة لمؤسسه نجم الدين أربكان الذي دق أول مسمار في نعش العلمانية في تركيا.

من جانب آخر، ثمة تيار قومي راديكالي (الحركة القومية) داخل تحالف الشعب بزعامة إردوغان معارضٌ أو من المفترض أن يكون معارضاً جذرياً لأيديولوجيا وبرامج حزب العدالة والتنمية، إضافة لحزب «الرفاه الجديد» برئاسة نجل أربكان الذي هدفه إقامة عالم جديد ونظام عادل تحت قيادة تركيا الكبرى مرة أخرى، وحزب الاتحاد الكبير المنشق عن الحركة القومية والمعارض بقوة للتطبيع الإردوغاني مع الكيان الصهيوني.

أما المعارضة الحقيقية فهي موجودة في السجون والمنفى ويبدو أن لا حظ لها حتى في المشاركة في الاقتراع، وهي التي تمت تصفيتها بخبث سياسي يميّز شخصية إردوغان، لتصبح الساحة مفتوحة لهذه التحالفات السريالية التي ستُبقي إردوغان فترة أخرى في الحكم من أجل أن يكمل ما بدأه أو يصلح ما خربه، وتحت هذا الشعار (إكمال المشاريع) الذي تبنّاه إردوغان يبدو أن الناخب التركي؛ الذي لم يرغب في أن يدخل في مغامرة، ذهب إلى هذا الخيار المريح، حيث إن الأزمة الاقتصادية هي المحك الرئيس للناخب التركي، وما تعرّض له الاقتصاد التركي في السنوات الأخيرة من هزة هو ما جعل النتائج متقاربة، غير أن المعارضة بكل تناقضاتها لا تختلف عن التحالف الحاكم بكل تناقضاته والتي ركزت على ملف اللاجئين وإعادة نظام الحكم البرلماني، لم تقدم أي تصوّر حقيقي لحل أزمة التضخم وتراجع الليرة وضعف القوة الشرائية، بينما وعود إردوغان كانت أكثر قوةً وإقناعاً فيما يخص حل هذه الأزمة، وتحت شعار «اللي شبكنا يخلصنا» يبدو أن الناخب التركي أكثر انجذاباً إلى وعود إردوغان الأكثر دراية بخفايا الملف الاقتصادي والأكثر قدرة على إصلاحه إذا ما أراد ذلك فعلاً، والأهم من ذلك، القادر على التقلب والتخلّي عن مواقفه وعقيدته إذا ما استلزم الشرط السياسي ذلك، مخلصاً لتطبيق شريعة مكيافيلي حين يقول: «على الحاكم أن يتظاهر بالرحمة والوفاء والنزاهة والتدين، وإن كانت فيه حقيقة فذلك أحسن، ولكن عليه أن يكون متأهباً للتخلي عن كل هذه الصفات والعمل بضدها إذا اقتضى الأمر، والتحلي بسياسة الأيدي القذرة والقفازات النظيفة». وهذه طريقة تعمل بنجاح مع غوغاء ما زالت تستميلها فنون الخطابة وكاريزما الشعبوية ودغدغة الوجدان الديني.