Atwasat

سيرة السيرة

أحمد الفيتوري الثلاثاء 25 أبريل 2023, 03:45 مساء
أحمد الفيتوري

هل السيرة الذاتية وثيقة موضوع، صورة أشعة "X"، خطاطة "اسكتش" وبالتالي مستند ومرجع كما خيوط العنكبوت، دليل قاطع لكل محقق علمى بحت وقانوني؟ ، أم لوحة تشكيلية ولعبة طفلية تستمد قوتها من تماسكها الداخلي، وليس كمرجع ومستند أو كما هي الرواية، وكما كل لعبة: غش وخداع يخفي شيئا أكثر أهمية؟.

تبدو هذه الموضوعة شائكة، لهذا اشتبكت فيما طالعت من سير، التي ظهرت لى مرة وثيقة دامغة وفي مرة أخرى كريستال: السيرة الذاتية، محكي يلخص حياة ما، وهذا الانشغال بالذات وسيرتها، يكشف على مستوى بنية النص، التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية، وأن السيرة مكتوبة من طرف المعني، ومكتوبة في شكل بسيط، وتستعمل مثل هذه الكتابة، من أجل أغراض متباينة. فالحديث عن الذات، يمكن أن يفيد، إما كبرياء متضخمة، وإما نوعا من التواضع، وفي كلتا الحالتين، ينظر السارد إلى الشخصية من مسافة، ويقحم في حكيه، تعاليا يتطابق معه، في نهاية المطاف.

قبل أليست السيرة هي البصمة الذاتية للفرد الإنسان، ومن ذا هي سيرة الجماعة، وأنها فعل ملح ينضح به الإنسان أثناء مشوار حياته، وقد يكون ميسم هذه الحياة، فالكثير من البشر، إن لم يكن الكلّ، يسرد سيرته في يومه، أو في مجمل أيامه، وبغض النظر عن مصداقيتها، فهي وثيقة الروح ما تكشف ما يتخفى منها، فإن زور المرء سيرته، فمسرودها كاشف لذا التزوير.

كنت أقرأ كتابا هو سيرة غيرية، وهذا النوع من الكتابة يشغلني، والسيرة الغيرية عرفت باعتبارها الوجه الآخر للسيرة الذاتية، التي تنشغل بالذات ويكتبها المرء عن نفسه، فالسيرة الذاتية حسب فيلسوفها "فيليب لوجون"، ميثاق بين المرء ونفسه، أي وجوده الخاص.

كنت تناولت السيرة الغيرية وكتبت بأن السيرة الغيرية مجهرية، في معرفة الذات البشرية الفاعلة، ما من خلاله، معرفة "ما حدث ما سيحدث"، فإنها إضافة مركزة تُعنى بدور الفرد، والفرد الفاعل في الجماعة، بل وحتى أنها إعادة أحياء لدوره، وبعثه في مهمة تخص المستقبل. بذا السيرة الغيرية، تسقط الضوء على ما يشبه "العقل الباطن"، ما هومظلم في العادة. وكم يكون في ذلك تحفيز متعدد الأهداف والأغراض، لدراسة موضوعة ذات صلة بصاحب السيرة، ومن هذا فإن الذات في السيرة الغيرية تكون الموضوع، فيتاح لكاتبها ما لا يتاح في السيرة الذاتية، وللقارئ القار/ الدارس، والقارئ العابر.

بعيدا عن ذاك، كانت حتى الأساطير سيرة بشرية، كما "جلجامش"، السيرة الوثيقة عن شغف الإنسان بالخلود، وعن أن العدو الموت، وعن الصداقة والدفاع عن الكينونة. ولا أريد الغوص في مقاربتي هذه، في فلسفة السيرة ومفاهيمها، فذلك مجال عميق، تمتليء المكتبات بدرسه وبحثه. ولكن أريد بهذه المقالة، إثارة الحاجة الملحة، لاحتياجنا إلى معرفة المستقبل، من خلال السير الفاعلة في اليوم، ما هو ماضي المستقبل.

ذلك لا يتسنى، دون الإلمام بالسيرة الغيرية، التي هي ما يقوم به كاتب ما عن غيره، فالسيرة الغيرية مثلما سيرة الرسول الأعظم :"السيرة النبوية لابن هشام"، وهاته السيرة وثيقة الصلة، بذات المكتوب عنه وصلاته بمعيشه، وكلما كانت جديرة بالقراءة، فلأنها إضاءة مضافة من الغير للذات، ما يعني الإحاطة بالموضوع من كل مناحيه الذاتية والموضوعية.

السيرة الغيرية غوص في الأعماق، في الغور العميق ما يستلزم نفسا قويا، نفس لا تخاف البلل، حريصة على عدم الغرق فيما تبحث، وهذا يستلزم شيئا هو شجاعة الحكيم، فأن تكتب سيرة ذاتية للغير، كأنما تُشرح جسد ذات، ليست أنت وهي أنت أيضا، هذا الالتباس هو معنى ضرورة السيرة الغيرية، وأهميتها، وأنها المفتاح لمعرفة من تم اختياره للكتابة عنه.

ورغم ضرورة السيرة الغيرية، والاحتياج الملح إليها خاصة للباحثين والمؤرخين، فإنه حسب علمي، قلّ أن نجد سير غيرية باللغة العربية، فما نقرأ مترجم، وهو أيضا ليس بالمتوسع فيه، كما حاصل مع الرواية، ومنها الرواية السيروية. ولقد كانت ومازالت السيرة الغيرية، تمثل نقصا بارزا في التأليف والكتابة العربية، وكم هو نقص فادح يكشف عنه ثراء الغرب في هذا النوع.