Atwasat

العيد، وسوق الجريد..!

سالم الهنداوي الخميس 20 أبريل 2023, 10:31 صباحا
سالم الهنداوي

.. في الأيام الأخيرة من شهر رمضان، يشتعل الشوق للعيد، فتأخذنا المشاوير الليلية مع أبائنا إلى "سوق الجريد" لشراء "كسوة العيد" البذلة المخطّطة الزاهية كثيرة الأزرار والقميص الأبيض و"قرواطة الأستيك" والحذاء الأسود اللمّاع.. قد ننال في ليلة واحدة ما نبتغيه من الحاجات، وقد يدوم البحث ثلاث ليالٍ حتى تكتمل الكسوة.. فأحياناً تغلب الرغبة والإلحاح فنختار جُزافاً من أجل الفرح بامتلاك الكسوة، وعندما نعود إلى بيوتنا نكتشف أن الحذاء ضيّق أو واسع، أو أن كُم القميص طويل، أو أن سروال البدلة كبير، فنعود مسرعين إلى السوق وقد خفّ الزحام، لنجد المحل الذي اشترينا منه مُقفلاً، أو نجده مفتوحاً فنفرح بالرغبة في قياس غيره، ونعود مبتهجين إلى ذاتِ دارنا المضيئة، نخلع ونلبس حتى تكتمل فرحتنا باكتمال قيافتنا، وكُنتُ لا أرضى على مظهري حتى أسمع والدتي تقول "ماشاء الله عليك، عريس" فتضمّني إلى صدرها الحنون وتمسك بالمشط تصفّف شعري، ومن فوري أقصد شقفة المرآة الشهباء على الحائط لأرى شكلي الجديد وأتحسّس صفّ شعري وقد زاد الشوق للعيد.

.. آخر الليل ننام وينام معنا العيد بقيافته وزهوه، البذلة كاملة أمامي في معلاق التلّ على باب الدولاب أستمتع برؤيتها على الضوء الخافت المُنبعث من وسط الحوش، أمّا الحذاء فقد نام معي على الوسادة بجوربه، أشتمُّ رائحته الجديدة حتى أدخلَ في النوم بصحبة بالونات ملوّنة تملأ الشارع وبنادق ماء وزمامير طويلة وصبيان وبنات نطرق أبواب الجيران ونعود بالهدايا والحلوى.

.. كان بيتنا العتيق يتوسّط شارع "باله" ولا يفصله عن سوق "الجريد" سوى بضع خطوات في شارع "الجهاني" ثم الاتجاه يميناً إلى شارع "بن عمران"، أو المرور عبر "الشوكات" إلى شارع "البعجة" ثم الصعود يميناً مع شارع "بوغولة" المزدحم بتجّار الجُملة والكراريس، ليكون سوق الجريد أمامنا مباشرة بمدخله الكبير وبمحلّاته المضيئة بفوانيس الزينة الملوّنة وبمعروضاتها من حلوى العيد والعصائر والمكسّرات، وبالملابس والهدايا والألعاب، وسط ضوضاء المارّة وصيحات الصغار ونداءات الباعة المتجوّلين وأصوات أجراس الدرّاجات وفرقعات البارود هنا وهناك.

.. في الصّباح الباكر بعد كُل ليلة طويلة من ليالي رمضان، يخلو السوق من الناس سوى من حارسيْن يتجوّلان بمصباحيْن من شرق السوق عند محل "إبراهيم بوعشرين" لبيع التوابل، إلى غرب السوق عند محل العطّار "سليمان النجّار" ثم يتسمّران عند مصطبة زقاق "الحمّام".. فتبدو أبواب المحلّات المُقفلة من تعب الليل تنام على ونس الضوء المتلألئ المتدلّي من عناقيد ممتدّة تهزُّها الريح الوافدة من جهة البحر تدفع بقصاصات الورق والأكياس الفارغة عبر شارع "الشريف" باتجاه "فندق بن غربال" وعبر قوس شارع "لعنيزات" لتنحسر هُناك في طريق مكانس عُمّال النظافة بملابسهم الصفراء وهم يكنسون في دأبٍ وراء عربات القُمامة التي تبدأ في جمع النفايات من الكراتين ولفائف البلاستيك بدءاً من ميدان سوق "الحدّادة" الفاصل بين سوق الجريد وسوق الظلام، بعضها ينحدر مع شارع "الشويخات" باتجاه شارع "عمرو بن العاص"، وبعضها تستمر في حملتها نزولاً مع شارع بوغولة إلى نهايته في منطقة "الفندق البلدي".. وهناك في هدوء المكان الواسع، أمام سينما "الاستقلال"، لا تسمع سوى صوت محرِّك اتوبيس "السلاك" ينتظر الإقلاع يتخلّله صوت عربات النظافة وهي تغادر لمجئ عربات بخّ المياه تغسل الطريق العمومية أمام الفندق، حتى لتسمع بوضوح صوت طشاش الماء تحت عجلات السيّارات المُسرعة في الطريق.

.. تلك كانت بعض مظاهر النظافة في صباحات بنغازي القديمة.

.. هدوء المدينة في الصّباح الندي كان من هدوء ناسها الطيبين الذين يجمعون الأمل لاستقبال العيد السعيد، فبهجة الأيام الأخيرة من الشهر الفضيل تمحو تعب أيام الصيام الطويلة ليكونوا على مواعيد الفرح بحلول العيد.. في لياليه الطويلة تنشغل أمهاتنا وأخواتنا وقريباتنا وبعض جاراتنا في تحضير الكعك والغريّبة، فنلعب بجوارهنّ نقطع أحاديثهن بالصُراخ، ثم نأكل من أصابع العجين ونضحك.

.. في ليلة العيد، الناس تسهر حتى الصّباح، فيعبر بعض المارّة شارعنا، منهم من يتوقّف للسلام والحديث مع الجيران أمام دكّان "سي فكرون" ومنهم من يلقي بالتحية وهو يعبر بدرّاجته، بينما يمتلئ الشارع بطوابير الصغار أولادا وبنات يحملون "طواجين" الكعك والغريّبة على رؤوسهم، وأمام "كوشة سي حمد الضبع" يأخذنا اللعب حتى ينادينا أحد الصبيان: "طواجينكم طلعن قاللكم سي حمد" فنهرع إليها ونسحبها بورق الكرتون إلى الباب حتى تبرد فنحملها على عجل وسط تهليل الصغار برائحة الكعك والغريّبة التي تبدأ تفوح في الشارع وتعبق به البيوت استقبالاً لصباحٍ جديد يبدأ بصوت صلاة العيد في جامع الجهاني.