Atwasat

من خدعة الديمقراطية إلى لعبة الديمقراطية

خالد العيساوي الثلاثاء 17 يناير 2023, 12:28 مساء
خالد العيساوي

لم تستطع البشرية من لدن أفلاطون إلى يوم الناس هذا تقديم نظام غيرِ معيب للحكم، فكل الأنظمة القديمة والحديثة لها ثغرات، وعليها مؤاخذات، وفي ظني فإن التاريخ لا يستثني من هذه القاعدة أي فترة زمنية، عدا تلك الفترات التي كان نظام نبوة من النبوات هو الحاكم فيها، والسبب في ذلك راجع إلى أن الناس يؤمنون بأن خضوعهم لنظام الحكم النبوي إنما هو خضوع للخالق مباشرة، ولذلك لم نجد أي رفض أو أي ثورة على أي نظام حكم نبوي من داخله، أما من خارجه فتلك مسألة أخرى.

في ظل هذا الطرح، فإن العقل البشري قاصر على تقديم نظام مثالي للحكم، وكل ما هنالك إنما هي مقاربات ومحاولات ليس إلا، قد تصلح لفترة ما لكنها لا تصلح للديمومة، وعليه فإن أي نظام يوضع للحكم ينبغي أن يخضع للترميم بين الحين والحين، بل وللاعتراف بعدم صلاحيته إن لزم الأمر وإلغائه بشكل تام بعد ذلك، كل ذلك راجع إلى أسباب عديدة، ليس أولَها قِصرُ العقل البشري، ولن يكون آخرَها تقلب المزاج العام وزئبقية مرجعياته، ومن هنا فإن السؤال الباحث عن حل جذري لمشكلة الحكم إنما هو سؤال حالم، يقفز على الواقع، ليرتمي في حضن الخيال النرجسي.

ما العمل إذن؟ يكمن العمل في رأينا في تعهد نظام الحكم القائم بالإصلاح والتقويم بشكل دائم، مع إيماننا بأن مشكلاتِه تتجدد، وأن عيوبه لن تتبدد، وغاية ما يمكن للمرء أن يفعله هو العمل على تقليل الثغرات بقدر الإمكان، ثم إن عليه أن يتغافل عن بعض تلك العيوب، إذ ليس بالإمكان أبدع مما كان، فعصا موسى لن تعاود الظهور تارة أخرى.

في مقال سابق بعنوان «المواطن الموسمي وأزمة ما بعد الديمقراطية» تحدثنا عن «خدعة الديمقراطية»، وكيف صار المواطن موسميا، يقتصر دوره في «العملية الديمقراطية» على التصويت فقط، مع سيطرة واضحة لبعض اللوبيات، خاصة لوبيات المال، على صناعة القرار، الأمر الذي سبب فجوة عميقة بين أهل السياسة وأصحاب السلطة الحقيقيين، وكيف قاد هذا الأمر إلى وجود تمثيل صوري غير حقيقي لذلك الناخب المسكين، حيث صار السياسي يسعى لإرضاء أصحاب السلطة الحقيقيين بدل إرضاء الناخبين، مع دغدغة مشاعر الناخبين وخداعهم ببعض الكلمات والمواقف بين الفينة والأخرى، من أجل الحفاظ على شعرة معاويةَ معهم، ولذلك وصفنا هذا المشهد بأنه «خدعة الديمقراطية».

في ظل هذا الوصف، يبرز السؤال التقليدي الذي يلح أصحابه على طرحه بقوة وهو: ما الحل إذن؟ الحل في رأينا لا يكمن في البحث عن صيغة مثالية بديلة لنظام الحكم هذا، فقد قررنا من البداية أن العقل البشري عاجز عن تقديم أطروحة متكاملة الأركان لحل هذا الإشكال، وإنما هي ترميمات وإصلاحات، وغاية ما يمكن فعله في هذه المرحلة من التفكير البشري في رأينا هو الانتقال من حالة «خدعة الديمقراطية» إلى حالة «لعبة الديمقراطية»، وذلك بالآتي:

أولا: دعم الطبقة الوسطى من الناس كما أشار فوكوياما في مقاله «مستقبل التاريخ» من أجل سحب البساط ولو جزئيا من تحت أقدام لوبيات المال المتحكمة في السياسيين، مع تشجيع الدولة على القيام بوظائفها الاجتماعية، والوقوف بجانب المؤسسات الأهلية من أجل دفعها إلى أداء واجبها التعاضدي نحو المواطن، وإطلاق يد النقابات المهنية المستقلة لتكون لها القوة الكافية للدفاع عن حقوق منتسبيها أمام السياسيين وأصحاب القرار، دون أن ننسى واجبات مؤسسات المجتمع المدني التي يجب أن تتمتع باستقلالية تامة، وأن تتلقى دعمها حصريا من صندوق تنشئه الدولة، تغذيه الشركات العامة والخاصة بشكل إجباري، إسهاما منها في خدمة المجتمع، وذلك درءا لأي شبهة فساد يمكن أن تكون بين الداعم والمدعوم، علاوة على تقوية دور الإعلام في ممارسة مهمة التوعية ومهمة الرقيب، بعيدا عن الإعلام الشاطح أو البوق أو المؤجج.

ثانيا: إدخال المواطن الناخب في اللعبة ليكون طرفا فاعلا وقويا، فبدل الاكتفاء منه بدور «المحلل»، يمكن الإبقاء على دوره مستمرا في اللعبة، وذلك من خلال تسليطه على المنتخبين بشكل دائم، حيث يكون من حق الناخبين متابعة أداء من أدلوا لهم بأصواتهم، ويصبح بإمكانهم قانونا إسقاطُ من حاد منهم عن وعوده للناخبين أو أدار لهم ظهره في أي لحظة من لحظات مسيرته السياسية، وفي هذه الحالة ستكون عين السياسي على رضا الناخبين أكثر من غيرهم.

إن اضمحلال دور الناخب على حساب تغول دور اللوبيات هو الذي أدى إلى ما حدث اليوم في البرازيل، حيث اقتحمت الجماهير مبنى الكونغرس البرازيلي احتجاجا على نتيجة الانتخابات، بعد أن تم شحنها بشكل كبير عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة المتحكم فيها من قبل لوبيات المال، ويكفي، للتدليل على قوة دور الإعلام هنا، تلك الاتهامات التي وجهت إلى إيلون ماسك، المالك الجديد لـ«تويتر» بسبب إعادته حسابات رافضة لنتيجة الانتخابات كانت محظورة من قبل، ما جعل بعض المراقبين يربطون بين ما يحدث اليوم في البرازيل وما حدث في الولايات المتحدة الأميركية عشية خسارة الرئيس السابق ترامب للانتخابات، كل تلك أحداث ومشاهد تهدد مبدأ التداول السلمي للسلطة الذي تنادي به هذه الديمقراطيات المزعومة.

إن غياب كل الأدوات سابقة الذكر عن المشهد السياسي، واستفرادَ لوبيات المال بالقرار وبالتسلط على السياسيين، جعل من «العملية الديمقراطية» توصف بأنها «خدعة ديمقراطية»، بسبب تغييب دور الناخب البسيط الذي تزعم الدساتير أنه «مصدر السلطات»، وبما أنه ما من سبيل إلى إنتاج نظام حكم تغيب فيه كل هذه المشكلات، فلا مناص إذن من ترميم هذا النظام الذي بين أيدينا، وذلك بدسترة كل النقاط التي أشرنا إليها سابقا وتضمينها نصوص القانون بما يحفظ أحلام الناخبين وطموحاتهم، وبذلك نتحول إلى «اللعبة الديمقراطية» التي يلعب فيها المواطن دورا مهما يكاد يكون موازيا لدور الساسة، بدل «الخدعة الديمقراطية» التي لا يلعب فيها المواطن إلا دور الكومبارس أو دور المحلل، وبذلك يصير المواطن أكثر فاعلية بدل هذا العزوف المتزايد عن المشاركة في الحياة  السياسية.