Atwasat

العقل والروح... تكامل أم تنافر؟

آمنة القلفاط الأربعاء 21 سبتمبر 2022, 11:27 صباحا
آمنة القلفاط

يعتبر العقل الذي يعمل داخل إطار الاتزان والسببية التي تربط المظاهر ببعضها البعض وفق قواعد منطقية، هو العقل الرياضي. العقل الرياضي له القدرة على حياكة المظاهر في نسيج محكم وفق قواعد وأصول منطقية، مراعياً التسلسل ومستنداً على البناء الهرمي المتقن على ما جاء به غيره وفق السياق ذاته المعني. إنه يربط المفاهيم ويصوغها في بناء متكامل لكنه خال من العاطفة وغذاء الروح.

يمكن القول إن التقنية تطورت بفعل تكامل الابتكار الرياضي مع البعد التجريبي، وصولاً إلى مرحلة الإدراك ومن ثم التطبيق. فالتقنية إذن هي نتاج العقل وهي بعيدة، لحد كبير عن التمازج مع الإحساس والعاطفة والروح.

هذا يقودنا لأن نعود ونستدرك بالقول إن العقل الرياضي جامد لا يلتفت إلى الهزات الروحية، وحاجة القلب إلى شطحات الخيال الواسع التي تريح الجسد المنهك تحت وطأة الفعل الرياضي. فالعقل الرياضي حبيس النفس، حصيلته لا تخرج من إطار العقل وإن كان مستنزفاً لوقود العقل والروح كونه لا يعمل إلا وحيداً، مؤدياً بالقلب للبحث عن خلاص ونافذة تغذي القلب وتقلل من اغتراب الروح.

الإنسانية لا تقاس بالمعادلات الرياضية، لكنْ للرياضيات يد في تجريد الإنسان من إنسانيته.

روحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإن القلوب إذا كلت عميت. راحة القلب بالتوقف الآني لمحرك العقل، فكل منهما له وظيفة بعينها ويحتاج وقوداً مختلفة، لينتج تكاملاً نحو التوازن المنشود.

العلاقة بين العقل والوجدان علاقة خفية ومبهمة، لكن الوصول لحد التكامل والحكمة، لا يتأتى دون إدراكها. دون العمل بالعقل والخيال لا يمكن للإنسان أن يدرك وجوده وينفتح مع ذاته. الوجود الإنساني يتلخص في ديمومة الحركة والفعل، والذي هو وليد حركة العقل والاستنباط الفردي المبني على ما جاء به إخوتنا في الإنسانية.

معنى وجودنا يتحدد بما نقدمه للإنسانية وما نتشارك به مع الآخرين، لكن إدراكنا لهذا الوجود لا يستقيم دون راحة النفس وتغذية المشاعر.

العقل الرياضي بمفرده جامد، ومع انشغاله بطلاسم الشفرات الرياضية، لا ينصت لحاجة النفس ولا يسلط الضوء على المساحات المعتمة من الروح. الخيال بدوره يجمح ولا سيطرة عليه إذا لم يقنن أداءه العقل. في الآية الكريمة، والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، توظيف لتفرد وجموح الخيال دون العقل. الخيال في ابتعاده عن العقل، جُموح وابتعاد عن التوازن المحمود، فالغاوي هو المائل عن الاستقامة، التابع للهوى.

لا يمكن للوحة الفنية أن تنال الإعجاب ما لم تأخذ الأبعاد الرياضية قيد الاعتبار، ولا يمكن للقصيدة أن يكون لها صدى، ما لم يكن لها مقدمة ومعنى وهدف وتسلسل منطقي.

الحُسن وليد التوازن، والتوازن وليد الانسجام بين العقل والخيال. العقل الرياضي وحده يفشل في إشباع حاجة الروح، بينما الخيال وحده يعجز عن الوصول للحكمة دون ميزان العقل.

لعمر ابن الأهتم التميمي بيت شعر يقول: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق. مفاد البيت أن السِعة والضيق في النفوس وليست في القصور ولا القبور. العبرة إذن في التوازن بين العقل والروح وصولاً للحكمة، الضالة المنشودة.