Atwasat

تلك الدار.. أيام الحقيقة (1)

سالم الكبتي الأربعاء 09 مارس 2022, 11:20 صباحا
سالم الكبتي

(كانت لنا فيها إذا غنى المغني ذكريات)
عبد الوهاب البياتي

صباح السبت 7 مارس 1964.. تنفس الربيع. عادت منذ أيام مضت الدراسة في المدارس والجامعة وبنغازي تنطلق بعد أحزان يناير. ذلك الصباح عانقت عيون القراء في المدينة العدد الأول من صحيفة الحقيقة. صدرت في ثماني صفحات. طبعت في المطبعة الحكومية الكائنة ذلك الوقت عند (فم السور) مدخل المدينة الشرقي من جهة الصابري. رأس تحريرها وأسسها محمد بشير الهوني. كان صاحب خبرة ومراس في العمل الصحفي، فهو أول رئيس تحرير لمجلة الإذاعة الليبية منذ صدور عددها الأول فى مارس 1961.

وكان ينشر مقالاته في عمود إسبوعي بجريدة البشائر في سنوات الخمسينيات، ثم أضحى محررا للتعليقات الإذاعية والأخبار في إذاعة المملكة إضافة إلى ثقافته وتجربته معلما في بعض مدارس برقة (جردس العبيد وبنغازي) بعد سنوات الحرب العالمية الثانية وعودته من المهجر ودراسته في الأزهر التي لم يكملها بصورة نهائية.

انطلق العدد رقم 1 للحقيقة من مكتب صغير للتحرير في بنغازي يقع في ناصية شارعي الاستقلال وتونس. كان الحلم كبيرا.. بدأت أسبوعيا بثماني صفحات وضمت العديد من الكتاب.. رشاد الهوني ويوسف القويري ومحمد عبدالرازق مناع وأحمد الحريرى وعبدالله القويري ومحمد فاضل زيان وكامل عراب ومحمد الشلماني وتاج السركنة وحميدة البراني مشرفة على صفحة الأسرة والمرأة وأحمد بشون مشرفا على صفحة الرياضة.. وغيرهم .

يقول رشاد الهوني شقيق المؤسس الذى صار لاحقا مديرا للتحرير وشريكا في إدارتها عقب تركه للعمل في شركة إسو بالبريقة.. يقول عن بدايات انطلاق الحقيقة: (في صالة المطبعة كنا نقضى ثلاثة أيام متوالية كل إسبوع نبحث عن العمال ونداعبهم ونسترضيهم ونسوي خلافاتهم ونتحمل صرخاتهم ونسهر إلى جانبهم ونجمع معهم أوراق الجريدة ورقة فوق أخرى وننام ونستيقظ فوق الصناديق الخشبية وحين يصل صباح السبت من كل إسبوع نكون قد نسينا ألامنا ومتاعبنا لنبدأ العمل في العدد الجديد).

ومنذ ذلك اليوم ظلت الحقيقة تصدر إسبوعيا مدة سنتين كاملتين رافقتها خطوات كثيرة من المعاناة والصبر فقد رفضت وزارة الإعلام في مارس 1965 استمرار طباعتها بالمطبعة الحكومية فلجأت إلى الطباعة بمطابع النهضة المجاورة لسجن بنغازي الرئيسي القديم عند بحر الشابي والتي تعود ملكيتها للمرحوم المهدي المطردي إلى أن تحقق حلم المؤسس بإنشاء مبنى ومطبعة خاصة في البركة وأنجز به طبع الصحيفة اعتبارا من العدد (103) الصادر يوم السبت 26 فبراير 1966.

ولدت فكرة الحقيقة في حجرة صغيرة فوق سطح إحدى العمارات الصغيرة بشارع الجزائر قرب الديوان الملكي ومقابل مدرسة الأمير وهي حجرة، كما وصفها رشاد، تشبه إلى حد بعيد دورة المياه في مسكن متواضع. فيما طفقت تساؤلات الناس تزداد كلما حققت الحقيقة تطورا مع الأيام عمن يقف خلفها ويساندها وعن جهات التمويل والتوجيه أيضا. طارت اتهامات وأقاويل تصفها أحيانا باليسارية وأخرى باليمينية وثالثة بالعمالة لأمريكا ورابعة بالعمالة لبريطانيا وأخيرة بمعاداة القضايا العربية. كان ذلك من قبيل الكذب فقد أثبتت الحقيقة بأننا لسنا أقل من غيرنا وأن بلادنا قادرة على تحقيق ذاتها بالعرق.

وذلك كان صحيحا للغاية. كان هدف الحقيقة في الأساس ليبيا صرفا فاهتمت بالشأن الليبي المحلي وبتقديم الخبر الليبي ومناقشة المشاكل الليبية والمشاركة في وضع الحلول وتوجيه النظر إلى الجوانب السلبية ورعاية الكتاب والأدباء الليبيين وتشجيعهم ونشر نتاجهم الفكري المتنوع علاوة على وضع هذا الليبي في الحدث العالمى ونقله إليه والتعرف عليه وتوطين علاقة مع المسؤول في الدولة ووضعه في صورة مايجري على الدوام.

خلال سنتين من مشوار الانطلاق بدأ محمد البشير في متابعة التطور والحراك لصحيفته.. اشترى قطعة أرض في الحميضة لبناء مطبعة خاصة لدار الحقيقة.. هكذا صار اسمها. مؤسسة تسعى بلا توقف لتحقيق صحافة وطنية وتجربة وطنية بمواهب وطنية.. وتحصل على قرض من بنك ليبيا.. وصدرت الحقيقة مع مطلع 1966 في تلك المطبعة.. في مقرها الجديد... وأضحى رشاد الهوني شقيق محمد الأصغر مديرا للتحرير وعبد اللطيف البناني رئيسا لمجلس الإداره.

يوم الاثنين 7 مارس 1966.. ومع تنفس الربيع أيضا.. تنفست الكلمة ووصل التطور إلى قمته بإصدار العدد (105) وهو العدد اليومي الأول الذي استمر بلا انقطاع فيما ظل عدد السبت الأسبوعي يصدر كذلك بنكهة فنية حرفية عالية إلى توقف الصحيفة بحكم جائر من (محكمة الشعب) التي أنشئت بعد سبتمبر ونظرت في العديد من قضايا فترة العهد الملكي وكان من بينها قضية (إفساد الرأي العام). كان ذلك في يناير 1972 وشملها مع بعض مثيلاتها من الصحف المستقلة.

صحيفة الحقيقة.. تاريخها ومشوارها يحتاج إلى الدراسة والبحث، فقد شكلت بصدورها واستمرارها بأجيالها من الكتاب والصحفيين والعاملين انتماء للوطن وتحيزا صادقا لتيار التجديد والتطوير في أسلوب العمل الصحفي ومثلت في الوقت نفسه (حالة ليبية) أو (خصوصية ليبية) طوال فترة صدورها وميزت الأفق الثقافي والفكري والمهنية الصحفية الوطنية ونوعته بمميزات واضحة ستظل تأثيراتها المهمة تبدو لدى الكثيرين ممن برزوا خلالها واستفادوا منها ومن تجربتها وخدموا القاريء والمتابع. الحقيقة كان لها الدور الحيوي والمهم فى تاريخ الصحافة الليبية.. والعربية على وجه العموم .

تابع القاريء في ليبيا دون استثناء الحقيقة وارتبط بها كل يوم وغدت قراءتها عادة يومية له مع شروق الشمس وفنجان قهوة الصباح ولمس تطور الإخراج واستخدام الألوان والخطوط والصور والأخبار الواردة من الوكالات العالمية ورأى بعينيه توزيع الصحيفة في كافة المناطق بشكل منظم ولا ينقطع . وفي مرحلة تالية من التطور تأسست عام 1967 شقيقتها باللغة الأنجليزية (ذى ليبيان تايمز). وأشرف على تحريرها يوميا رشاد ومعه الصحفي الفنان سمير عطا الله ثم صدرت الشقيقة الأخرى ( الكفاح) فى بيروت عام 1968. خطوات تتالت لترسم تلك الدار.. الحقيقة ولاشيء غيرها.