Atwasat

الاغتيال التاريخى

رافد علي الخميس 04 نوفمبر 2021, 01:55 مساء
رافد علي

تُعد الاغتيالات عبر تاريخ البشرية ظاهرة يتجلى فيها العنف المادي في صورة شديدة القتامة، بسبب أنه، كفعل، ينصب علي إنهاء حياة خصم سياسى بطريقة خفية وتفاصيل سرية، مَرد الاعتداء فيها على المغدور، كونه صاحب اختلاف في الرأي او في التوجه. ويسجل التاريخ الإسلامي بان ثلاثة من خلفائنا الراشدين قد تمت تصفيتهم اغتيالاً، ضمن مسلسل دموي لم يتوقف في حضارتنا، إذ تجلت فترة فرق الحشاشين، التي تعتبر من أشد فترات تاريخنا قتامة في مسلسل العنف المسيس.

في عالم اليوم، لا فرق بين الدولة الثورية أو الرجعية على صعيد السجون والمنافي والاعتقالات والاغتيالات، إلا من حيث مواقع الحكم على الضحايا واختلاف الأسباب والأهداف، فبعيداً عن قضايا الاغتيال السياسى، هناك أيضاً الاغتيال المعنوي، او الاغتيال التاريخى، وهو الاغتيال الذي يعتمد على ميكانيزمات سلوكية محددة، أو تدابير معينة تخفي غايتها بقصد ضرب رموز حضارية أو ثقافية لشعب ما، أو ضمن فئة منه تستهدفه السلطة أو نخبة معينة بحرق أو إخفاء نسق ثقافي معين، كفيل بخلق رمز حضاري يملك شرعية التأسيس لمرجعية ثقافية في مخيال مجتمعه الخاص به، وعادة ما يكون مخيالاً غير مرغوب فيه من الصف الآخر، فيسعي لإخفائه، كما هو الحال في اغتيال العرب والمسلمين، معنوياً، لبعض الشخصيات النسائية التاريخية عبر خلق نهج التجاهل التاريخى الممنهج والإبعاد الأكاديمى، بقصد تعزيز ذكورية مجتمعاتنا المعاصرة، وبما يحفظها كهوية خاصة ترفض التكافل مع الجنس الآخر خارج نطاق التزاوج والتناسل.

خولة بنت الأزور، الفارسة والشاعرة المسلمة، التي قارعت الروم، لاتزال هنالك أصوات بيننا تشكك في حقيقة وجودها التاريخى، الذي سُردَ في كتاب فتوح الشام للواقدي. فالمؤرخون الأوائل في تاريخ الإسلام، كابن حجر، وأبي الفرج الأصبهاني في الأغاني، وابن قتيبة الدينورى في الشعر والشعراء، وابن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعر، يشككون جميعهم في حقيقة خولة التاريخية، كشخصية وكملحمة في الفروسية، بجعل كل ما ورد في فتوح الشام بنيان خيال، وشططا عن واقع المرأة العربية أساساً، وعبر الدفع، كذلك، بأن فتوح الشام يُعد لكاتب مجهول، وليس للواقدي فيه من شيء، بما يجعل خولة لدينا حالة وهم أو شبحا!.

في كتابها "سلطانات منسيات"*، تتطرق عالمة الاجتماع فاطمة المرنيسى لحالة الاغتيال التاريخى لنساء عربيات ومسلمات قُمن بأدوار قيادية بارزة وحاسمة فى تاريخنا، وتم تغيبهن بقصد الحيلولة دون جعلهن حالة حاضرة في المخيال العربي عموماً، والنسوي على وجه الخصوص، بحيث يكون الاغتيال التاريخي، كعنف معنوي، تدبيراً لمسح جزء من الذاكرة، ومنعه من أن يكون أيقونة ثقافية تحفز الحاضر لخلق الأفضل، فـ "المجتمعات الأهلية، كما في مؤسسات الدولة، كالجيش والأمن، تمتلك مخزون عنف خاص، لا يظهر جلياً إلا في زمن البدائل والانعطافات الكبري... .".**

تتحدث المرنيسى، بذات كتابها المذكور، عن السلطانة راضية، التي تولت السلطة في دلهي، وقد تناولها ابن بطوطة في رحلاته مُشيداً بحرصها على العدالة وتوليها حركة النهوض بالبلاد، وممتدحاً فنونها الحربية وقيادة الجيش. وتقول المرنيسى بسلطانات منسيات، أن الفرنسيين لازالوا اليوم يتذكرون شجرة الدر، التي انتصرت علي الصلبيين، في حملتهم السابعة، وأسرت لويس التاسع أثناء حكمها مصر بتلك الحقبة الصعبة. تجدر الإشارة هنا لمجهودات المؤرخ محمد عبدالله عنان بخصوص تأريخه لدور نسوة، عرب ومسلمات، لحفظ المُلك العربى فى الأندلس، كما في شخصية عائشة الحرة في كتابه "نهاية الأندلس"*** الذي اعتمد فى تأليفه له على وثائق أسبانية.

تتعدد التعليلات للاغتيال التاريخى للرموز النسوية في ثقافتنا المعاصرة، فهناك من يُرجعها إلى أن مجتمعاتنا لم تستكمل تحديثها في شتي المجالات والمستويات الثقافية، وهنالك البعض من يرجعه إلى أن التأريخ في ثقافتنا يُعد عملية محصورة على الذكور، "فليس من السهل وجود مؤرخة من النساء"، فلذا يعتبر تاريخنا مكتوبا بأنفاس الرجال، كما تكرر دائماً مُونية الطراز، الباحثة المهتمة بشئون المرأة، والمتخصصة فى الدراسات القرآنية.

الاغتيال، بوجه عام، يندرج في علم طبيعة المجتمعات البشرية والحيوانية، ويتعين العنف الإنساني بعدة ضوابط مبنية على احتمالات كامنة أو معلنة، منها نزعة السيطرة بلا قيود، ونزوة السلطة والسطوة، واستبعاد الإنسان لبني جنسه واستغلالهم بكل الوسائل المتاحة المباحة والمحظورة.

سيظل صعباً على مجتمعاتنا أن تحقق تقدماً ملحوظاً، يضاهي عصرها الذي تعيشه، طالما أنها مجتمعات ذكورية، تغيّب نصفها الآخر تعسفاً وظلماً ضمن دوغمائية إقصائية، واجتماعيات تحتاج لصيانة.

هامش.

*فاطمة المرنيسي، سلطانات منسيات: نساء رئيسات دولة في ظل الإسلام. ترجمة فاطمة الزهراء أزرويل. المركز الثقافي العربي- دار نشر الفنك. ط1

** خليل أحمد خليل، الاغتيال: حرب الظلال والعنف المقدس. دار الفارابي. بيروت. ط1. 2012.

***محمد عبد الله عنان، نهاية الأندلس. مطبعة التأليف والترجمة والنشر. القاهرة. 1966.