Atwasat

بين (التحريض) و (التحفيز)

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 31 أكتوبر 2021, 10:20 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

أعتقد أن متابعي مقالاتي لا حظوا أن نسبة معتبرة منها ذات طبيعة حوارية. أي أنها تعقد حوارات مع مقالات لآخرين. وبعضها مثل سلسلة ردود متبادلة بيني وبين كتاب آخرين، في مقدمتهم محمد خليفة وسالم العوكلي. وانا أرى أن الحوارات عملية تفاعل فكري تحفز الأطراف المنخرطة فيها على التفكير الأكثر جدية وتدعو إلى مراجعة كل طرف أفكاره ورؤيته. فهي عملية مفيدة ومنشطة لأطراف الحوار، مثلما هي مفيدة للقراء، ما دامت تتمسك بالمسؤولية وتراعي تقاليد الحوار الجاد الراقي.

المقالات التحاورية مع سالم العوكلي لها تاريخ استدامت على مدى بضع سنوات. وبغض النظر عن العلاقة الشخصية الدافئة بيننا، فإننا نشترك في مساحة فكرية واسعة. إلا أن الاشتراك في هذه المساحة لا يمنع الخلافات والتفاعلات الفكرية المثمرة. ففي مجال الفكر، كما في أي مجال آخر، لا يمكن أن يكون شخصان، مهما تقارب فكرهما، متطابقين فكريا. وهنا يحضرني ما يروى عن علمين بارزين من أعلام المعتزلة، أظنهما إبراهيم بن سيار النظام وأبو الهذيل العلاف، من أن أحدهما قال عن الثاني "ليس بيني وبين (فلان) خلاف، سوى في أربعين مسألة"!.

يتعامل العوكلي بمسؤولية ورجاحة عقل المفكر مع ردودي على مقالاته. إلا أنه واجه في مقالي قبل الأخير "دعوة إلى نظام شمولي؟!" (http://alwasat.ly/news/opinions/335999?author=1) الذي كان ردا على مقاله "الانتخابات.. الانتخابات" (http://alwasat.ly/news/opinions/335462?author=1) ما أثار حفيظته واحتجاجه، باعتبار أن المقال، مثلما يراه، يتجاوز النقد الفكري، الذي يرحب به العوكلي، إلى المساس بشخصه. فهو يجد في عنوان مقالي ذاته "دعوة إلى نظام شمولي؟!" سوء طوية ويراه سؤالا مشحونا، مثلما عبر في صيغة عنوان مقاله "سوء الطوية أو السؤال المشحون".

وهو يعرف السؤال المشحون بأنه "سؤال غير بريء ‘‘يتضمن افتراضا باطلا أو خلافيا أو يصادر على المطلوب.‘‘". ويقول " لا أرحب ولا يسعدني أن تُقوّل مقالتي ما لم تقله أو تناقش وفق التخمين بما لم يرد فيها، وأنفر من قراءة النوايا، أو وفق الأحكام المسبقة، أو القراءة التي يحكمها سوء طوية bad faith."، وأعتقد أننا جميعا ننظم إلى العوكلي في موقفه المبدئي هذا.

إضافة إلى اعتراضه على عنوان مقالي، انصب احتجاج العوكلي لفظتين وردتا في أحد سطور مقالي:
يقول السطر " "لذا أتمنى من المثقفين الوطنيين الجادين أن يعقدوا العزم على مناقشة هذا المقال في محاولة لسد التفرعات والمسارب المنبثقة عنه" معتبرا، العوكلي، أن جملة "يعقدوا العزم" تحمل نبرة تحريضية عالية.

ولست أدري كيف حمل العوكلي هذه الجملة على هذا المحمل، بدلا من أن يرى فيها تحفيزا ملحا على مناقشة مقاله!. فأنا أعتبر، فعلا، أن مقاله ذو طبيعة إشكالية وأنه تتوزع منه خيوط شعاعية في اتجهات مختلفة ينبغي أن تحدد توجهاتها وأهدافها، ولم "أحرض" على "التصدي" لمقاله و "تفنيد منطلقاته". وإنما دعوت، وما زلت عند دعوتي، إلى أن يُتخذ المقال منطلقا لنقاشات جادة متنوعة تتفاعل معه اتفاقا واختلافا، وكنت أتوقع أن يُسر العوكلي بكون لمقاله هذه الأهمية التي يمكن أن تكون محط اهتمام "المثقفين الوطنيين الجادين"، الذين من ضمنهم العوكلي وأنا.

يحتج العوكلي على لفظة "يشعرني" في جملتي "مقال العوكلي هذا يشعرني بأنه يضمر دعوة إلى قيام نظام شمولي استبدادي" على أساس أن "يشعني" هذه تحيل، حسب العوكلي، إلى فعل حدسي يتنافى مع العقلانية. وأنا أتفق مع العوكلي في هذا، جزئيا. إلا أن هذا الفعل الحدسي الذي ينأى عن التأكيد يدل على أنني لم أشأ الانفراد بالحكم على مقاله، ولهذا دعوت إلى أن يكون محل تعاطٍ فكري متأن ومسؤول. يحتج أيضا على لفظة "يضمر" الواردة في الجملة أعلاه على الأساس نفسه.

قراءتي لمقال العوكلي هي مجرد "قراءة" وكل القراءات هي مجرد وجهات نظر وآراء وليست أحكاما، حتى ولو صاغ صاحب القراءة قراءته في هيئة حكم. فـ "كل قراءة هي إساءة فهم" مثلما يصرح دريدا، ولعله يقصد بذلك أن أي نص، أدبيا أو فكريا كان، حمال أوجه وقابل لتفسيرات وتأويلات متعددة لأنه ينطوي داخله على تناقضات وتعارضات، وعليه لا تتمتع أية قراءة بسلطة مرجعية. ويفرق إمبرتو إيكو بين "مقصد المؤلف" و "مقصد النص". ومن "إساءة الفهم " هذه و "مقصد النص" تتدفق تلك الأعمال التي تعيد قراءة فلاسفة ومفكرين.

ولا أقصد بذلك الكتابات التي تشرح فلسفة أو فكر فيلسوف أو مفكر معين، وإنما تلك الكتابات التي "تحقق" مع النص لتستنتج منه ما لم يقله صراحة، أو تعيد تأويله على ضوء منهج جديد، مثلما فعل ألتوسير مع ماركس حيث أعاد قراءته وفق منهجه البنيوي (هذا الاستطراد ليس موجها إلى العوكلي، فهو ممن يدركون هذا جيدا. ولكنه موجه إلى القاريء المهتم بهذا الحوار). وأعتقد أن هذا ما فعلته مع مقال العوكلي، وهو فعل أتاح له فرصة توضيح رأيه.