Atwasat

الانحياز والموضوعية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 18 يوليو 2021, 09:51 صباحا
عمر أبو القاسم الككلي

 منذ بداية تولد الحضارات وتبلورها أخذ الإنسان يجتهد في إيجاد أفضل السبل لتنظيم ما يتعلق بنواحي حياته كافة، بما في ذلك التفكير والمعرفة، ومن هنا نشأت الفلسفة والعلوم المختلفة. كان دائما يهتم باستحداث طرق تضمن له، إلى هذا الحد أو ذاك، الوصول إلى الحقيقة، أو، على الأقل، الاقتراب منها إلى أكبر قدر ممكن. أي تضييق المسافة بينه وبين الحقيقة.

وعلى هذا الدرب تبلور ما صار يسمى "المنهج العلمي" الذي أهم خصائصه استبعاد تأثير ميول وتحبيذات، أو نفوره وتحاملات، الذات الباحثة في الموضوع المبحوث. أي ما يعرف اختصارا بـ "الموضوعية".

وإذا كان الالتزام بالموضوعية ميسورا في العلوم الطبيعية، فإنه يكون صعبا وعسير المنال في الإنسانيات، وبالذات في مجال التاريخ.

هناك من يستعمل مصطلح "الموضوعية" و "الحياد" كمسميين لمسمى واحد. لكننا نعتقد أن هذا ليس صحيحا. وهذا المقال يتبنى التفريق بين الحياد والموضوعية، بخصوص التاريخ.

ففي اعتقادنا لا يوجد، في مجال الدراسات والبحوث التاريخية، شيء اسمه الحياد. لا يوجد سوى الانحياز. والانحياز، وغياب الحياد، يبدأ بمجرد اختيار موضوع البحث أو الدراسة. فالباحث يختار موضوعا يرى أنه أهمل سابقا سهوا أو عمدا، أو أنه عولج من خلال رؤية متحاملة أو معادية.

فعلى سبيل المثال، عندما اختار* الدكتور علي عبد اللطيف احميدة دراسة أعمال الإبادة التي ارتكبها الاستعمار الفاشي الإيطالي في ليبيا من خلال تسليط الضوء على المعتقلات الجماعية التي قضى عشرات الآلاف من الليبيين نحبهم فيها، وكذلك دراسة أعمال التهجير والاقتلاع، لم يكن محايدا أبدا. لقد كان منحازا انحيازا كاملا للضحايا والمقاومين والليبيين عموما، وله موقف مناويء للاستعمار الإيطالي.

ليس من الضروري أن يكون المنحاز منتميا إلى نفس المجموعة البشرية محل الدراسة، وإنما قد يكون، على العكسن مثلما في الحالة الليبية، منتميا إلى القوة الاستعمارية. وهنا يكون الانحياز إلى العدالة والإنصاف، والمعارضة أو الاحتجاج، على الجهة المعتدية، كما حدث في حالة الباحثين الإيطاليين آنجيلو دلبوكا وجورجيو روكات اللذين حاولا تسليط الضوء على الفظائع التي ارتكبتها بلدهما الاستعمارية في ليبيا.

إلا أن انعدام الحياد لا يعني انعدام الموضوعية. فإذا كان الحياد ينعدم عند اختيار الموضوع ويحضر بدلا منه الانحياز، فإن الموضوعية ينبغي أن تفرض مقتضياتها في معالجته. وفي مثالنا المتعلق بأعمال الإبادة المرتكبة من قبل إيطاليا الفاشية في ليبيا تتمثل الموضوعية في عدم نسبة شنائع إلى الاستعمار الإيطالي في ليبيا لم يرتكبها، ولا حتى المبالغة في حجم الشنائع المرتكبة، مثل المبالغة في أعداد الضحايا. كما ينبغي عدم نسبة منجزات إلى الليبيين لم ينجزوها، أو السكوت عن حالات تعاون بعض الليبيين مع الإيطاليين ضد أخوتهم المقاومين أو التقليل من حجمهم وتأثيرات تعاونهم وتواطئهم.

* علي عبد اللطيف احميدة "الإبادة في ليبيا: شَرُّ التاريخ الاستعماري المسكوت عنه Genocide in Libya: Shar, a hidden colonial history"