Atwasat

فكرة جيدة، وحمامة زاجل

محمد عقيلة العمامي الإثنين 05 يوليو 2021, 11:14 صباحا
محمد عقيلة العمامي

زاد عمري، الآن، عاما أو اثنين عن ثلاثة أرباع قرن! ولا أعتقد أنني سوف أسأم عندما احتفل بعيد مولدي الثمانين، لأنني من جيل لا يعترف، بقناعة طيب الذكر، الشاعر زهير بن أبى سلمي صاحب البيت المشهور الذي يقول:
"سَئِمْتُ تَكالِيفَ الحَياةِ وَمَنْ يَعِشْ *** ثَمانِينَ حَوْلًا لَا أَبَا لَكَ يَسْأَمِ"، ولا بمقولة: "فاتكم القطار"، لأنني في الواقع لا أحب القطارات.

أبدا لن أسأم. قد يكون ذلك بسبب تكويني، أو تجربتي، أو روح المغامرة والتحدي، أو ملكة اكرمني الله بها، وهي أنني أجد، في الغالب، فيما أقوم به من أي عمل جزئية ممتعة، قد لا ينتبه إليها من يمارس العمل نفسه. ولكنني عجزت، عن ذلك، في فرصة عمل توفرت لي وهي التي يتطلع إليها العديد من الشباب في مجال السينما والتلفزيون.

مطلع سنة 2019 نشرت مقالا، عنوانه: حافلة المواهب، والإبداع، والشهرة، استهللته بالآتي:
"وجهة حافلة المواهب هذه ستوديو قناة تلفزيون الوسط. أنا غالبا أنتقي مقعد هذه الحافلة الخلفي، فكلما تقدم العمر بالمرء يصاب برهاب السرعة، فيجلس في الخلف ليبتعد عن رؤية الطريق، والقذائف الشبابية المنطلقة من الجانبين. أنا في الواقع، أشترك في مشاويرها الصباحية، وكذلك المسائية، مع شباب متفائل وظريف. الوجهة واحدة ولكن طبيعة ما نقوم به هناك يختلف من راكب إلى آخر. يحلو لي أن أتخيل فوق كل رأس من الرؤوس ذوات الشعر الأسود المتمايلة أمامي، شكل ذلك الذي يعلوا الرسوم الساخرة، ويملأ بالكلمات وعلامات الدهشة أو الاستفهام.."

اعترف أن فرصة ثمينة مُنحت لركاب الحافلة كافة، ولي أيضا. ابتهجت بها، وهي العمل في مجال فني في الابتكار والتنفيذ، وأُشهد الله أن الفرصة منحت للجميع دون استثناء. تتبعت خطوات تنفيذ عمل تلفزيوني، من بدايته حتى بثه، وسريعا ما انتبهت إلى أنه عمل تقني جدا، سواء في التصوير، أو في المونتاج والإخراج، فمعرفة الأجهزة وكيفية العمل بها تقنية متقدمة تحتاج إلى متخصص وفوق ذلك عشق الفني لما يقوم به، والأهم هو رشاقة "دماغ" الشاب، أما الكهل، حتى وإن كان متصابيا، فليحمد الله على أنه يستطيع أن يشاهد العمل، ولا يغفو أثناء عرضه!

وحتى لا تضيع الفرصة تماما، قررت أن اتجه إلى السيناريو والإخراج، واشتريت عددا من الكتب والمجلدات المتخصصة، وكلما قيل شيء عن كتاب متميز في هذا المجال، أنطلق نحو الوراقين وأسال عنه وأقتنيه، لدرجة أنهم ما إن يروني مقبلا نحوهم حتى يجهزوا ويعرضوا عليَّ مؤلفات مماثلة، بأغلفتها التي بهتت من الغبار! وتلخصت استفادتي من هذه المكتبة التي كونتها سريعا، في الفوز بغفوة تداعبني كلما قرأت من كتبها صفحة أو اثنتين! وأيضا في كتابة عدد من مواضيع في تلك التخصصات. ولقد أخبرني عدد من الشباب العاملين معي في المجال نفسه أنهم استفادوا مما كتبت! وطبعا أشعر بزهو دون أن يخطر ببالي أن ما قالوه لي قد يكون نوعا من المجاملة لعجوز طيب!

وسريعا ما انتبهت إلى أن غايه صاحب العمل، أي عمل، يريد ما لديك من أفكار توسع عمله، يريد قدرتك على الإبداع والتنفيذ، فمجال الإعلام يعتمد بالكامل على هذين العنصرين. أما أن تمضي يومك تتطلع على خطابات المخرج الكبير محمد خان إلى صديقه سعيد شيمي من نصائح في الإخراج أو في أسرار السيناريو، التي كتبها الدكتور وليد سيف، فذلك يعني أنه افتتح مدرسة لمنتهي صلاحية الاستيعاب بالمجان! صاحب العمل، أي عمل، يحتاج إلى من يبتكر له ما يُنجَح عمله، يريد ما تستطيع أن تضيفه إلى "كوشة القش" المتقدة طوال الليل والنهار. التلفزيون، كالفرن يحتاج إلى وقود ليجعله مضيئا ساطعا جذابا آخذا. فاقتصر عملي، بالضرورة، على أرشيف الزمن الذي نكرر أنه جميل، على الرغم من أنه ليس جميلا جدا.

وسريعا ما عدت إلى الكتابة الإعلامية في البوابة، التي تعد بداية ألق مؤسسة الوسط. عدت إلى محاولة ابتكار مواضيع تهم الناس وتحقق المرجو منها، وكان ذلك خير ما فعلت، إذ لم يتطرق السأم أبدا إلى سنواتي التي تقترب من الثمانين! فالكتابة الصحفية، وليس بالضرورة الإبداعية، تحتاج إلى قراءة متصلة في المجالات كافة، وسيجد الكاتب دائما ما يستطيع أن يقدمه إلى القراء، شريطة أن يبتعد عن الموعظة، والإرشاد والسياسة الليبية. وبالصدفة قرأت مقالا يتحدث عن أولئك الأذكياء الذين يتفوقون، أحيانا، عن مئات تقدموا معهم لنيل وظيفة ما. لأن معظم نجاحات الذين فازوا بتلك الوظائف، هم أولئك الذين استطاعوا أن يقنعوا صاحب العمل بأن ما سيقدمونه سيكون مفيدا ومثمرا له. سواء أكان صاحب مصنع، أو كوشة، أو حكومة انتقاليه، أو وحدوية!

وقرأت عن الموهوبين الذين فازوا بوظائفهم من بين المتقدمين. كان أكثرهم جراءة هو ذلك الذي سلم إلى مصلحة البريد في قريته قفصا به حمامة زاجل، مربوطا في قائمتها رسالة، وطلب أن يسلم القفص بما فيه للسيد "بيم" رئيس القناة التلفزيونية التي عرضت حاجتها إلى مستخدمين، بعد أن كتب لهم عنوان التلفزيون. وصل القفص وسلم إلى السيد (بيم) ، وكانت الرسالة المربوطة بساق الحمامة تقول: " أرجو- يا سيدي- أن تختار أحد البندين التاليين، ثم تطلق سراح هذه الحمامة. البند الأول : "يسرني أن أقابلك بشأن العمل المطلوب في الساعة والتاريخ الفلاني" أما البند الثاني: "أعتقد أنك شخص تافه، سخيف، وسوف لن أقابلك بأي حال من الأحول" فعادت الحمامة، سريعا، بموعد للمقابلة، برسالة ربطها المدير بساق الحمامة، موضحة: "إن أهم ما يؤهل الشخص للعمل في التلفزيون نزعته إلى الابتكار والتجديد، ولا شك أنك تتمتع بهذه النزعة" ولقد أضفت إلى رسالة المدير الفقرة التالية: "فأنت شاب في مقتبل العمر مبتكر وخلاق، ولا تغفو ما بين قرارك بتدخين سيجارة، وإشعالها بالفعل". يقال أن طالب الوظيفة كان شابا وسريعا ما أصبح من كبار المخرجين في تلك القناة! وهو الذي قال، بعد أن نجح في عمله: "كل ما يحتاجه الشاب الموهوب حمامة زاجل وفكرة جيدة!".