Atwasat

الدستور يعطل الانتخابات

نورالدين خليفة النمر الإثنين 31 مايو 2021, 11:34 صباحا
نورالدين خليفة النمر

من المواد المبدئية التي يلزم طالب العلوم السياسية في ألمانيا بتقديم ما يفيد إجازتها النظام السياسي في ألمانيا، والإجازات تتمثل في تقديم عروض وكتابة بحوث. ولأني اخترت في الفصول السابقة موادَ أخرى تتوافق مع تكويني الفلسفي واهتماماتي السابقة في ليبيا كالتغيير والاقتصاد السياسيين، والسياسات المجتمعية والتنمية والعلاقات الدولية. رحلت مواد النظام السياسي في ألمانيا إلى الفصل الأخير في مرحلة الدراسة الأساسية، فألزمت بكتابة بحت إجازتي الرئيسي العام 1996 مجبرا في اختيار مبحث النظام الانتخابي الألماني.

بعد أن سجلت البحث في إدارة الامتحانات، اخترت ممتحنا أولا أستاذا أصله من تشيلي فر بجلده من انقلاب دموي قام به العسكر ضد رئيس البلاد المنتخب سلفادور إليندي العام 1973، وممتحنا ثانيا أستاذا ألمانيا دخل نهاية الثمانينات إلى البرلمان مترشحا باسم حزب (السياسة البيئية) الخضر.

ظروف عائلية تتعلق بإعانة أختي وإعالة طفليها اضطرتني إلى السفر إلى العاصمة التشيكية براغ. فلم أتمكن خلال شهرين من العودة إلى جامعة مدينة أولندنبورغ. فأجاز الاستاذان البحث بدون نقاشه شفويا معي، لمعرفتهما بي وبإمكانياتي الفكرية وآرائي التي عبرت عنها في بحوث اختبرتها في مسيرتي الدراسية والفكرية في ليبيا، بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، ونمط الإنتاج الاقتصادي، والهجرة والتنمية والتحديث، والأقليات في السلطة، وغيرها.

النظام الانتخابي الألماني بنية مركبة من القوانين واللوائح والإجراءات المعدلة والنصوص التفسيرية في نسق من التطورات في سياق سياسي ومجتمعي تنظمه مصالح طبقات وتعبر عن مصالحه واهتماماته أحزاب أظهرتها الديمقراطية بعد مخاض تاريخي طويل. وإزاء الصعوبة التي تكتنف غريبا مثلي عن هذه البحوث أكثرت في الكتابة من الاقتباسات والاستشهادات المرجعية والعروض، واستعدادا لنقاشه أعانتني في ذلك القواميس المختصة المتوافرة في المكتبة الألمانية. فاتبعت آلية حفظ واستظهار المفاهيم والمصطلحات، بدل ماعودتني دراستي للفلسفة عليه من الفهم والتفسير والمناقشة.

الانتخابات في ضميرنا الليبي مفهوم لا ماصدق له، كما يعبر المناطقة عن المشكلة.
فقد انتدبت بريطانيا على ليبيا بعد تحريرها العام 1944 من الاستعمار الإيطالي الفاشي. ففهرست كيانها الاستقلالي العام 1951 على مقاس ديمقراطيتها التمثيلية، مملكة دستورية، الملك فيها يملك والبرلمان يشرع، والحكومة تحكم. انتخابات العام 1952 التي أدارتها الحكومة الاتحادية المؤقتة، أفسدت مضمون الدستور، ولم تفسد الخطة البريطانية التي أقصت الأحزاب المعارضة للإمارة، ومحورت الحزبية الاستقلالية في حزب المؤتمر الطرابلسي، الذي بايعت زعامته الأمير، وشارك أعضاؤه في صياغة الدستور، بل أوكلت رئاسة لجنة الدستور للمفتي الذي كان عضوا بارزا في حزب المؤتمر الطرابلسي .

يستند هذا الرأي في قبول زعيم المؤتمر بالهزيمة أمام الحكومة وذهابه إلى المنفى دون أن تتاح له مقابلة الملك، مسلما مصيره للإهمال والنسيان.

وإزاء تخليه عن كل ما سعي إليه، تمكنت الحكومة من شراء ضمائر الأعضاء المنشقين عن حزب المؤتمر بمن فيهم نائب زعيم الحزب والمفتي وآخرون، فثبتت مقاعدهم في مجلس النواب كمعارضين لا فعالية لهم، وألغى الملك الذي صار يملك ويحكم الأحزاب التي وصمت بإثارة الفوضى. وصار البرلمان هيكلا رمزيا لا مضمون له بل صارت الحكومة ألعوبة في يد حاشية القصر، التي تصدر لها الأوامر، وإذا تلكأت في تنفيذها يأتي مرسوم ملكي بحلها. أما الانتخابات البرلمانية فصار التزوير سمتها، فإذا افتضخ يأتي مرسوم ملكي بإلغاء الانتخابات التي طالها التزوير وإجراء انتخابات جديدة لا تخلو منه.

عاصرت صبيا دون أن أعيها عفوية انتخابات سنة 1964 التي فاز فيها عن حينا شارع الزاوية بطرابلس المؤتمري السابق مصطفى السراج إزاء منافسه الوجيه محمود القلالي. وبسبب تهم التزوير التي طالتها، ألغيت نتائجها بمرسوم ملكي وأعيدت العام 1965 ليفوز جارنا محمد بيرمة على الخصم نفسه القلالي. كانت انتخابات أسماء بدون النظر إلى خلفيات بعضهم الحزبية الاستقلالية 1949 ـ 1952 أو المجتمعية وجهاء وملاكا.
الانتخابات أحد عناصر النظام السياسي الديمقراطي. ونظاميته تبعده عن العفوية والشخصية التي لابست مصيره النيابي الليبي. النيابية التي أسقطها صغار ضباط الجيش وصفق لهم الجمهور بإسقاطهم الملكية الليبية العام 1969. في 1 سبتمبر 1971 شاركت بنفس انعدام الوعي في الاستفتاء الذي لاعلاقة له بليبيا، والخاص باتحاد الجمهوريات العربية في مدرسة البنات بحينا الواقعة في أرض مزرعة تعود ملكيتها للمترشح النيابي المذكور محمود القلالي، وقد وافق على الاستفتاء 98.6% من الناخبين، مع إقبال 94.6%؛ وبنفس معدومية الوعي وقفت كهلا في طابور الترشيح لأعضاء المؤتمر الوطني العام يوليو 2012. العفوية ذاتها تكررت مشاهدها أمامي بعد 35 عاما من الإلغاء الرسمي للانتخابات النيابية واستبدالها العام 1977 بشكل التصعيد حسب المبدأ الحاكم لما سمي تجاوزا سلطة الشعب.

الدستور الليبي الذي تمت صياغته ليكون مؤسسا رمزيا لدولة الاستقلال الليبي عام 1951 ظل نصا محايدا في معارك الانتخابات التي أفشلها تدخل إرادة الملك والحكومة بتزوير إرادة الشعب. حتى تم إلغاء الدستور بالسلطة الشعبية العام 1977، وإلغاء الانتخابات بصدور الفصل الأول من الكتاب الأخضر في أول سبتمبر العام 1976. بينما مسودة مشروع الدستور الليبي غير المصدق عليها من البرلمان تكون العائق الأول لانتخابات السلطتين التشريعية والرئاسية منذ صدورها من قبل الهيئة التأسيسية المنتخبة شعبيا في 2015.
الخلاف على الانتخابات تتقاسمه مؤسسة البرلمان العاطلة عن العمل في طبرق التي بهتت شرعيتها المنتخبة شعبيا حتى كادت تتلاشى وسلطة مجلس الدولة القابع في طرابلس، والذي فرض نفسه على المشهد السياسي بعد شرعنته باتفاق الصخيرات الذي يكاد الحبر الذي كتب به أن يزول. أما الشعب الذي ينبغي عليه أن ينتخب فإنه فعليا غير موجود. فلا تعبر عنه وسائل الإعلام، ولا مثقفون عضويون يصوغون ضميره في مواقفهم وكتاباتهم، ولا منظمات مجتمع مدني، أو حتى أشباحها الهزيلة، التي كانت تفتعل ضجيجا لا صدى له في العام 2012.
المؤيدون للانتخابات الرئاسية بالتخفيف من الشروط التي يصفونها بالإقصائية الواردة في القاعدة الدستورية التي ستجري بها الانتخابات المزمعة في 24 ديسمبر 2012 يفترضون شعبا سينتخب دكتاتورهم الذي يتوقعون منه ضمان مصالحهم التي اكتسبوها، والمعارضون للانتخابات تفترض مخاوفهم شعبا سيختار الدكتاتور الموجود فعلياً الذي يخافون عودته فيقضي على مصالحهم ومكاسبهم التي استعادوها.

واقع مقيت ـ كالذي وصفه الفيلسوف سارتر في كتابه الغثيان ـ لكن تفكيرالكاتب فيه هو تأكيد أناه ولهذا السبب لا يمكن أن تتوقف كتابته عنه. فالكاتب موجود بما يفكره. ولا يمكنه منع نفسه من التفكير. وفي هذا الوقت بالذات إذا كان موجودا، فما هذا إلا لأن وجوده يرعبه. إنه أناه الذي يسحبه بعيدا من العدم الذي انشد إليه: الكراهية، الاشمئزاز من الوجود، ليسا سوى بعض الوسائل التي تجعل الكاتب موجودا، تجعله غائصا في الوجود.