Atwasat

سعيد وما بعده

رافد علي الخميس 27 مايو 2021, 02:56 صباحا
رافد علي

كان مقال "التمنع والتجنب والتعرف" المنشور مارس عام 1972 بمجلة مواقف اللبنانية إشعاعاً يمهد لكتاب الاستشراق، أيقونة شهرة إدوارد سعيد، والصادر عام 1979. في المقالة المذكورة، التي كتبها إدوارد أثناء منحة إجازة تفرغه الأكاديمي من جامعة كولمبيا، وقضاها في الجامعة الأمريكية ببيروت بدعوة من أنيس فريحة لأجل أن يعوض إدوارد ما قد فاته في غربته الطويلة من فرص التعرف والاطلاع على التراث العربي؛ في هذه المقالة يسلط الضوء علي هشاشة الثقافة العربية إزاء الاعتداء الأجنبي ويوضح "قلة حيلة" المثقف العربي رغم حالة الوعي عنده بالمأزق الذي يعيشه ومجتمعه، إلا أن المرحوم إدوارد في ذات اللحظة يأخذ على المثقفين العرب "تجنبهم الخوض في معرفة الذات العاجزة، وتمنعهم عن تقديم بديل"، ويشير ضمن الاستشراق وتبعات التفاعل معه إلى حالة "السطحية" التي تطبع التبادل بين الغرب والشرق.

الاستشراق، بما له وعليه كطرح فكري، يصب في خانة ما بات يعرف علي نطاق واسع بالخطاب الما بعد كولونيالي. فأثر الكتاب كان شديداً في الهند والباكستان واليابان وبإفريقيا وأمريكا الجنوبية مقارنة بعالمنا العربي، مما جعل إدوارد يعتقد بان الخطاب الما بعد كولونيالي لا وجود لدلالته كما يقول في كتابه السلطة والسياسة والثقافة". وفي "الثقافة والإمبريالية" يُرجع إدورد ضعف أصداء الاستشراق عربياً إلي غياب "التنظير" الذي يرقى بتحليل خطاب ما بعد الاستعمار إلى مستوى "الممارسة القرائية" وفق ما يقدم يحي بن الوليد في دراسته لعام 2008 بعنوان "إدورد وحال العرب" بمجلة الكلمة الإلكترونية الصادرة بالعربية والإنجليزية.

مع حلول القرن التاسع عشر كانت قد برزت تحولات جذرية في نظرة الغربي للشرق، إذ تغيرت حالة التوجس الجاهلة إلى إزدراء العارف، بسبب ما وقف عليه الغرب من حالة تفوق حضاري وعلمي، وبالتالي إدراك الغرب عموماً مدي شيوع حالة قابلية شعوبنا للاستعمار حسب المفهوم التقليدي للاستعمار، إلا أن ما يجري الآن في حقبة ما بعد الاستشراق، التي تتجلى فيها حالة سقوط الاستشراق بصورته التقليدية المبنية أساساً على سحر الشرق زارعاً كبديل حضاري له مبدأ سحر الغرب الملهم في كل شئ، ولكل العالم وفق عولمة جديدة، مغريا ضمنها الإنسان بتقليده واتباع خُطاه، وبذات اللحظة يقوم بشيطنة الشرق باعتباره بؤر إرهاب تسعى لشن "الجهاد" على الغرب الساحر وتدميره، مما يضطره، أي الغرب، لشن "حرب مقدسة" هناك، كما فعل في أفغانستان أولاً، والعراق ثانياً حسبما يتفضل فاضل الربيعي في كتابه "ما بعد الاستشراق" الصادر عن مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت، والذي يأتي ضمن محاولات اقتحام العرب للخطاب ما بعد الاستعماري، باعتبار أن الحالة السردية، نصاً وخطاباً، تشكل عند إدوارد إحدى تحديات العرب بالعصر الحديث لاسترداد حقوقهم من الإمبريالية والصهيونية.

وفي كتاب كراهية الإسلام يتحدث المؤلف فخري صالح، في محاولة أخرى لمناقشة الفوبيا والكراهية ضمن ما أَطلق عليه "الاستشراق الجديد"، والذي يعتقد أنه يتقاطع مع "الاستشراق القديم" بتركيزه على بناء تصورات أيديولوجية حول الإسلام والمسلمين، من دون أن يسعى إلى تقديم معرفة نظرية وتطبيقية حقيقية؛ ذلك أنّ جوهر ما يفعله هذا الفرع الجديد من الاستشراق هو إعادة تمثيل الإسلام والمسلمين بصورة تخدم الغايات الإمبراطورية للقوة الأميركية التي تسعى إلى الإبقاء على سيطرتها بوصفها قطبًا عالميًا وحيدًا وأوحد. وهذا ما يمكن أن يفسر دور كل من برنارد لويس وصمويل هنتنغتون في صناعة السياسة الأميركية خلال ربع القرن الأخير.

مهما يكن من حال كتاب الاستشراق من نقد واعتراضات وترحيب، انطلاقاً من قراءة صادق جلال العظم وصولاً إلى حماسة محمد شاهين وطرح الاستغراب كبديل أكاديمي للاستشراق عند حسن حنفي، وجب الذكر أن التيار الديني لازال يعتبر أنه صاحب العزوة في التعامل والتعاطي مع الغرب ضمن مفهوم الاستشراق أو ما بعده ضمن خطابه المعتاد بكلاسيكيته، وبكل الاعتيادية في صياغته. فاستجابة الأزهر للاستشراق تأتي ضمن نسق نظرية المؤامرة المعروفة في الخطاب العربي عموماً كموقف مسبق من الاستشراق، ولذا تظل، عند هذا التيار، الدراسات الإسلامية وقفاً على أبناء الإسلام، لأن المستشرق له مرجعيته المناقضة للإسلام والمتشبعة بالاستعمارية، كما جاء في "ظلام من الغرب" للشيخ محمد الغزالي، علماً أن كتاب "الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي" لمحمد البهي قد خرج للنور في خمسينيات القرن الماضي. فإدوارد ونتائجه في الاستشراق لازالت غير متعاطٍ معها من قبل شيوخنا عموماً، وربما مردُ ذلك إلى أن سعيد مثقف عربي مسيحي يكتب بالإنجليزية، وهذا قد يعزز الاعتقاد الرائج بان حالة الإقصاء المتبعة ضد الطرح إدوارد كونه يحاور من خارج نطاق حلقات الفقه والمجامع الدينية، أو ربما يعود ذات الإقصاء بسبب الاكتفاء المعرفي لشيوخنا بفقه العربية والدين دون أي واعز فضولي آخر يشجعهم على اقتحام حقول معرفية أخرى رغم عصر العولمة واللغات بحسب نظرتي المتواضعة. فالإقصاء الذي قد يمارس من قبل الصف الديني عموماً قد يوجه ضد غير المألوف سماعه وحفظه ضمن أسوار الحوزة الدينية ذاتها لا ضد الغير فقط، فيشهد التاريخ أن شيخ الأزهر المعروف بأبي زيد الأول قد قال في جلسة عامة واجتماعية ذات مرة بمطلع القرن المنصرم، بأنه يعتقد بان آدم ليس برسول، فقامت القيامة عليه، ورفعت ضده دعوى حسبة، إلا أن القاضي حينها كان على مستوى من المعرفة والاطلاع، فحكم بالبراءة معللاً حكمه بإبداعية تجد رحابها في آفاق الفكر.

لا يعتقد إدوارد سعيد نفسه مدافعاً عن الإسلام ضد شرور الغرب كما يراه الكثير من العرب انطلاقاً من صدور الاستشراق كما يصرح بذلك في "السلطة والسياسة والثقافة" بسبب أنه لم يُفهم كما فُهم بشكل واسع مثلاً في الهند، التي برزت فيها كتابات ترحب وتنتقد على ذات الأوتار والوتيرة لأفكار إدورد كما فعلت آنيا لومبا في "المغالاة في الخطاب".

لا يوافق المرحوم إدوارد سعيد على اعتبار الصمت فضيلة كما هو شائع في ثقافتنا الشرقية، لأنه لا يتصل بصمت إياغو في مسرحية "عطيل" ولا صمت هاملت الذي ينهي حياته بعبارة "البقية الصمت"، ويشبه صمت كورتيز الذي يقول عن الراوي "من يدري؟! لقد أدبر عنا مطبقاً شفتيه" فإذا كان الصمت ظاهرة مهمة في الحياة، فإن الأهم منه هو تحدي الصمت. وأقرب طريقة لتمثيل مفهوم الصمت عند إدوارد سعيد هو تأمل بروست الذي جعل كل همه البحث عن الزمن المفقود، وتقصي أبعاد الذاكرة حتى لا يضيع إلى الأبد في متاهات الصمت، وبحث في الكيفية التي نحرك بها الصمت من سكونه الأبدي لنحوله من موجود بالقوة، إلى موجود بالفعل يؤتي ثماره في هذا العالم الذي نعيش فيه كما يقول محمد شاهين في "إدورد سعيد مقالات وحوارات".

لقد رحل سعيد عن دنيانا بعد رحلة عطاء زاخرة، وبقلب يحترق على فلسطين والعراق، ولا أدري لو أنه لازال بيننا اليوم هل كان لقلبه المتعب من صراعه الطويل مع المرض صبراً على حرائقنا وسوء فهمنا للعالم وإحباطاتنا فيه؟ فالواقع الذي عشناه مع سعيد أقل انكساراً مما نعيشه بعده في مسلسل هزائمنا كشعوب.