Atwasat

البيوت والأغاني

سالم الكبتي الأربعاء 07 أبريل 2021, 11:16 صباحا
سالم الكبتي

البيت انتماء وسكينة. تجمعه الحكايات وتظلله المودة. وتجاوره البيوت الأخرى في سلام وتصير جميعها مثل البيت الواحد. في الأزقة والدروب والحنايا. في مرتفعات الجبال. في الحقول البعيدة. في كل مكان بلا ثمة فرق.

البيوت حكاية. البيوت قصص طويلة في الليل والنهار خلف ستائرها وشبابيكها. البيوت انتماء. وهي الخطوة الأولى لانطلاق الانتماء الحقيقي للآخرين.. للحياة الفاضلة.. للوطن. البيت نفسه وطن صغير.

والبيوت أغانٍ ملونة تصدح منذ مطلع الفجر. الفن.. الأغاني كثيرًا ما وجهت اهتمامًا رائعًا لهذه المشاعر الإنسانية. والشعراء من ناظمي تلك الكلمات حلموا وبنوا أسسًا لتلك البيوت قوامها الجمال والمحبة والخير. والعديد منهم تخيل بأحاسيسه العميقة معاني لا تتوقف عن البيت البعيد أو القريب وما يحتويه. والقول التالي على سبيل المثال يظل يتردد فوق الشفاه عند الأصدقاء والأحباب الذين يعرفون هذه المعاني وما وراءها ويختصر كل التفاصيل. إنه البيت العائش في الخاطر الذي يستحضره في كل الأوقات. ويرسمه لوحة أمام البصر ويملؤه بالحنين رغم التفجع أو الحسرة:
(فيه. أمارة

وامجاور مرابط عند ذيل القارة

وايجيب البعيد قريب بوصكارة

عليك بيت مايكمل اليوم قصيدة).

وإضافة إلى أنفاس الشعر المجهول أو المعلوم الآتي عبر الزمن فان الأغاني شيدت الكثير من البيوت وسط الكلمات وإيقاعات الألحان وعندما يشربها المرء بأذنيه.. عندما يصغي إليها يحس أنه داخل بيت رائع وجميل تحفه الألوان والخيوط المبهجة.

فيروز.. خلال إقامتها في مصر في أبريل 1955 وما بعده من أشهر غنت الكثير من الأغاني بتوزيع وألحان الأخوين رحباني.. منها مافيه استعادة وتجديد لتراث سيد درويش العظيم: طلعت يا محلى نورها. زوروني كل سنه مرة. ومنها لسواه من الكتاب والشعراء المبدعين بالكلمة الأصيلة (وبالطبع يبرز وسطهم الرحبانيان).. سوف أحيا. شط إسكندرية. راجعون. سنرجع يومًا إلى حينا، وغيرها. ثم حلمت ببيت فيه كل الهناء وقامت بالإشارة إليه ووصفه وصفًا دقيقًا مع لحن هادئ ومؤثر.. (بيتنا في الجزيرة عند ضفاف النيل). تغزلت في ذلك البيت وأركانه المفعمة بالسكينة وأوجدته في صورة حلوة. وكأنها تقول وتؤكد أنه هناك. وفي ذلك الموقع. وعند الضفاف.

وفي لبنان كثيرًا ما حلمت بالبيت البعيد الدافئ الجميل تحت أقدام التلال: (يا ريت أنت وأنا بالبيت.. شي بيت.. أبعد بيت.. ممحي ورا حدود العتم والريح.. والثلج نازل بالدني تجريح). البيت والثلج والبعد ومع ذلك يعيش فيه الدفء وتنمو المشاعر الصادقة. يعيش فيه الإنسان. صورة مثالية قد لا تتحقق في الواقع، لكنها تعيش من خلال الكلمة في صورة فنية عالية يظل إنسان عالم اليوم يحتاجها هروبًا مما يحياه من هموم وضيق.

ومرسي جميل عزيز.. الشاعر الفذ ورسام الكلمات التي تتراقص بالحياة لحنا وأداء نظم بيت العز يا بيتنا قدامك عنبتنا. غنتها في الخمسينيات الماضية فائزة أحمد القادمة من ديار الشام إلى ضفاف النيل. وصباح غنت.. (بستاني يا بستاني.. يا منور بيك خلاني). وكمال حسني المطرب الشاب الذي لم يستمر ولم يعد يتذكره أحد هتف (عند بيت الحلوة هدي هدي) . ومحمد فوزي.. (بعد بيتنا بيت كمان.. حلو ساكن من زمان) ووديع الصافي صدح بحنجرته القوية في حوار يرن في سمع المتلقي.. (قالت بتروحلك مشوار.. قلتلها ياريت.. قالت لكن اوعى تغار.. حوالي عشاق كتار.. قلتلها بطلت.. خليني بالبيت).

وعندنا في أغنيتنا الليبية أمثلة حسنة في مزج صورة البيت المنشود بأحاسيس الود والتعاطف أجملها ما هتف به محمود الشريف.. يا بيت العيلة ياعالي يا منور بالحب.. يااللي فيك اجتمعوا عيالي بالروح وبالقلب).

.. وهكذا تلتقي البيوت بمختلف طبقاتها وأنواعها. كبيرة أو صغيرة . بعيدة أو قريبة. غنية أو فقيرة. توحدها الأغاني بمشاعر وصور وحكايات وغزل للمعاني الإنسانية الراقية والتطلع إلى البعيد والحلم بكل جميل في هذا العالم.. الذي سادت فيه وارتفعت مظاهر السوء وعلامات القبح وغدت توشحه بالسواد.
البيوت.. أغنية مبهجة تقهر الظلام!!