Atwasat

حروب وندسور

جمعة بوكليب الخميس 18 مارس 2021, 12:24 مساء
جمعة بوكليب

المرءُ منّا، حتى وإن حاول، لن يكون بمنجاة من الخصومات في هذه الدنيا، ولن يجد لنفسه ملجأ يحميه منها. وأسوأها خصومته مع نفسه. وتليها في المرتبة الخصومات العائلية بكافة أنواعها وأشكالها وتدرجاتها. ليس فقط لكونها مزعجة، ومسببة للأرق وباعثة على الحزن، بل لقدرتها على دفعنا، أحياناُ، إلى حافة الجنون. ذكرني بذلك مؤخراً، الخصومة العائلية التي اندلعت نيرانها، هذه الأيام، في بيت آل وندسور الملكي البريطاني. ورغم أن البيت الوندسوري والخصومات رفاق طريق منذ زمن طويل، إلا أنه ليس بمنأى عما تحدثه كل واحدة منها من تداعيات وانعكاسات، لاتقتصر على أفراد العائلة المالكة، بل تمتد كأذرع أخطبوط إلى مناطق مختلفة من أراضي الإمبراطورية البائدة، حيث مازال، إلى يومنا هذا، يتخندق وراء حصونها أنصار ملكيون ومصالح وولاءات وثقافة ترسّخت عميقاً في جذور الأرض والقلوب والتاريخ والجغرافيا. والخصومة الأخيرة بين الأمير هاري وزوجه من ناحية، وبقية آل وندسور من ناحية أخرى، رغم ما أثارته من ضجيج إعلامي، ليست الأولى ولن تكون الأخيرة بالتأكيد، ولن تؤدي إلى القضاء على الأسرة المالكة. تجارب التاريخ، وخبرات الماضي سوف تنفض عن نفسها الغبار وتنهض متسارعة لنجدة العائلة، ولتقديم النصيحة والمشورة، ومن خلالها ستتمكن من تجاوز زوبعة أخرى، لن تزيد إلاّ في قوة العائلة، وفي استمراريتها، بكامل امتيازاتها.

والذين منّا عاصروا أحداث أزمة المرحومة الأميرة ديانا في التسعينيات من القرن الماضي، وتابعوا أحداثها، ونهايتها الماسأوية ربما يتذكرون ما كان يتداول في وسائل إعلام العالم من تعليقات وأحاديث، وأغلبها يضع رهانه على قرب نهاية بيت آل وندسور. ورغم ما سببته تلك الأزمة المأساوية من إرهاق للعائلة المالكة، إلا أن العائلة بخبراتها تمكنت بعد وقت قصير من تجاوزها، والعودة إلى مواصلة حياتها وسلطاتها، بل إن ولي العهد الأمير تشارلز، زوج المرحومة ديانا، تزوج بخليلته التي كانت العلاقة بها سبباً في طلاقه من ديانا، واستفحال الأزمة. الآن، ابن ديانا، الأمير هاري، يعلن مع زوجه حرباً على العائلة، على غرار ما فعلت والدته. وشخصياً، حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن متابعة ما ينشر في وسائل الإعلام البريطانية من أخبار وتعليقات وأحاديث تتعلق بالأزمة. وابتعادي ليس مبعثه الترفع، بل أقرب ما يكون إلى تجنّب قراءة كتاب تعرف مؤلفه، وتعرف محتوياته، ولن تستفيد من إعادة قراءته. لكن ذلك لا يمنع من القول أن الأزمة الأخيرة متميّزة عن غيرها، بدخول عامل جديد ممثلاً في العرقية والعنصرية.

فالسيدة ميجن ميركل، زوج الأمير هاري، من أصول عرقية مختلطة يغلب عليها العرق الأسود. وقبولها في البيت الوندسوري لم يكن سهلاً، لكن الأمير هاري فرض نفسه، وألزم أفراد العائلة باحترام اختياره. لكنه لم يستطع بعد ذلك حمايتها من فخاخ الهمز واللمز والطعن من الخلف الذي يميّز الحياة في كل القلاع والقصور الملكية، ولا من البروتوكول الملكي وتشعباته وتفصيلاته الكثيرة والدقيقة جداً. وكان على الزوجة الأمريكية الغريبة أن تتعلم السير في حقول ألغام، من دون معلم. وحين حدث المحظور، ووطأت بقدمها على لغم، كانت تعرف أنها لن تستطيع رفع قدمها عنه من دون حدوث انفجار قد يودي بحياتها الزوجية، أو حتى بحياتها كما حدث للأميرة ديانا. وما حدث يعرفه الجميع، لأن الأمير وحرمه أفرغا، على الملأ، كل ما احتوته حقائبهما من غسيل، في مقابلة تلفزية بثت في مختلف قنوات العالم التلفزية. الموجة الإعلامية العالية التي سببتها الأزمة انحسرت بعد أيام، وعاد البحر إلى سابق إيقاعه، وسيعود الأمير هاري وحرمه قريباً إلى مواصلة حياتهما، في مقر إقامتهما في كاليفورنيا، في انتظار قدوم مولودهما الثاني قريباً. ما تركته الموجة من آثار اختلفت هذه المرة عن سابقة الأميرة ديانا.

إذ ليس في الخصومة الأخيرة ضلوع خليلة أو تورط عشيق، بل عنصرية مقيتة تقيم، منذ زمن طويل، في البيت الوندسوري، وكُشف عنها الستار، وليس من السهولة بمكان إسداله مجدداً، لأن للمسألة العنصرية مساربَ تجري في أرض الواقع البريطاني، وتشقه اثنين: شقٌّ أبيضُ، وآخرُ ملون. ومثل الماء والزيت، ظل اللون الأسود طافحاً فوق مجرى الأبيض ولم تفلح عبر السنين محاولات دمجمهما. المسألة اعتبرت من البيان الذي أعدّه المستشارون في البيت الوندسوري عائلية، وستتولى العائلة التعامل معها وراء أبواب مغلقة.

لكن الأمر اختلف خارج أسوار قصر باكنغهام الملكي، بعد أن أعادت القضية المسألة العنصرية إلى حلبة النقاش المجتمعي، وتدافع المحللون من كل الألوان للإدلاء بدلائهم، وارتفعت أصوات ملونة تطالب بحقها في العيش في وطنها بمساواة، ولم يكن أمام حكومة السيد جونسون سوى الانكماش، ورصد التطورات من بعيد، ولعلمها أن الشعير يدور يدور ويرد لقلب الرحى. وليس أمامها سوى الاستعداد والتهيؤ لما سيتجدد من مطالب قديمة - جديدة، بتشريعات تكفل حقوق المواطنة لجميع الألوان في المجتمع، وتضمن عدم سيادة لون واحد.