Atwasat

أضواء على جدلية «الحداثة» وما بعدها

رافد علي الخميس 03 ديسمبر 2020, 04:24 مساء
رافد علي

«الحداثة» - وما بعد «الحداثة» من المصطلحات التي تتردد على نطاق ملحوظ في كتابات أهل الفكر العربي، وفي الترجمات إلى «العربية» من منابع الفكر الغربية، سواء القارية منها «الأوروبية» التي تعتبر تركيبية النزعة، أو الأنجلوسكسونية، المعروفة بالتحليلية. لقد ظهرت مفردة «الحداثة» على يد المؤرخ الشهير توينبي العام 1959 مدللاً على ثلاث سمات ميزت الفكر والمجتمع منتصف القرن الماضي باللاعقلانية والفوضى والتشوش. وقد كانت المفردة الفرنسية Moderniteسيلة المفردة اللاتينية «Modernus» هي التي أصبحت متبناة على نطاق واسع لاحقاً. الإثارة في موضوع «الحداثة»- وما بعدها انطلقت من خلال مجهودات المفكر الأميركي البراغماتي ريتشارد رورتي، الذي أمضى حياته مهتماً بمناقشة الفكر الأوروبي، وفتح حوارات مع أطروحات المدرسة القارية، وازدادت الحالة صخباً أكاديمياً عندما أسس رورتي جمعية للفلاسفة تهتم بقضايا الفكر، وممارسة النقاش مع منتجات أوروبا الفكرية.

«الحداثة» قامت على ثلاث ركائز.
الأولى منها هي الذاتية، التي كانت فكرة ديكارت من خلال مذهبه في الشك في كل شيء، بحيث يصبح الفرد متحرراً من لاهوت المسيحية والكنيسة، فيملك الفرد رؤيته الخاصة للعالم راسماً قناعاته الذاتية حول الوجود والحياة دون أحكام جاهزة أو ممنوحة له بشكل مسبق.

الركيزة الثانية هي العقلانية التي جاءت على يد لايبنتز هو، الذي أسس الفكرة بالعبارة المشهورة، «لكل شئ سبب» وانصبت الفكرة عنده على أن الإنسان بعقليته يتحول من مجرد متأمل إلى باحث عن مسببات الأشياء وعللها، مما يفتح أمامه أبواب العلم والمعرفة، ويمنحه بالتالي سلطة أعمق على الموجود.

الركيزة الثالثة هي العدمية التي أبرزها نيتشه بشكل أوسع قاصداً بها عدمية القيم ونسبيتها أمام مستجدات الحياة والعصر. فكلما بالت قيمة إنسانية وجب عدم الأسف عليها، بل البحث عن خلق أخرى تحل محلها.

لعل الحقل الأكاديمي في المدرستين أعلاه حاول تأصيل «الحداثة»، كل حسب رؤياه، وهنا تتجلى حالة التفاعل المدرسي بين ضفتي الأطلسي. فرورتي يرجع «الحداثة» إلى الديكارتية، أي عندما أصبح التشكيك منهجاً يفكك كل الثوابت. في حين أن الألماني يورغن هابرماس يردها إلى عصر الأنوار، أي عندما استطاع الفكر الأوروبي صياغة نمطية جديدة في التفكير وفي نمط الحياة بعيدة عن التقليدية التي كانت الكنيسة رباً لها. بينما فريدرك جامسون يحدد ميلاد «الحداثة» في النصف الأول من القرن الماضي عندما صار الإنسان والتقنية أسياد الطليعة.

هذا الاختلاف في تأصيل لحظة ميلاد «الحداثة» حتماً سيؤثر في تأصيل ما بعد «الحداثة» ورسم ماهيتها ومنطلقاتها من حيث تغير الواقع، وتبدل القيم.

ما بعد «الحداثة» مهما كان من أمرها، انتقاداً أم تحمساً لها، فهي نتيجة التراكم المعرفي والفلسفي ضمن سياق تاريخ الأفكار وللتغيرات في الحياة، فقد انطلقت ما بعد «الحداثة» كردة فعل على «الحداثة» بداية في حقل الفن المعماري بحيث تبنت العمارة المعاصرة التنميق بدلاً عن التقشف، والإثارة بدلاً عن العقلانية، والخربشة بدلاً عن التجريد، لكن الفكرة سرعان ما تسربت إلى ميادين أخرى كالآدب والفنون والفلسفة.

ففي الفلسفة كانت ما بعد «الحداثة» حالة تجاوز لتيار ما بعد البنبوية الذي لمع فيه فوكو الذي رفض أفكار التنوير باعتبار أن النظريات والأفكار ما هي إلا تعبير عن إرادة السلطة، وأنه حانت اللحظة لتجاوزها لأنها باتت كلاسيكيات وقيوداً وهمية. ففي تلك الفترة بفرنسا كان طالب السوربون يعاني منعه من مناقشة أفكار «الحداثة» بالحرم الجامعي، ولا حتى أتباع نسقها في قالب أكاديمي تجديدي. فكل النقاش والحوار حول هذه الأفكار كان يجري خارج أسوار الجامعة.
محمد أركون كمعايش لهذه المرحلة كطالب لشهادة الدكتوراه وقتئذٍ، يصف هذه الفترة في أروقة الجامعة في كتابه «نزعة الأنسة في الفكر العربي» عن دار «الساقي»، يصفها بأنها كانت فترة جداً «محافظة وخانقة».

وقد استمر النقاش والحوار الطلابي بهذه الوضعية بعيداً عن الجامعة حتى قيام ثورة الطلاب العام 1968.

أما على مستوى الاجتماع بتلك الحقبة، فقد شرعت المجتمعات المتقدمة تشهد تغيرات عديدة، وسياقات اجتماعية جديدة بسبب التبنية وشيوع الاستهلاك، فأسس الاجتماعيون مصطلح «المجتمع ما بعد الصناعي»، كما فعل دانيل بل والفرنسي آلان توريد اللذان صاغا أن الثقافة أمست قوة دافعة للاقتصاد بما يوازي الإنتاج الاقتصادي، ولذا أصبحت الحاجة ملحة لإشباع الحاجة الثقافية. إلا أن انزلاق الليبرالية وأسواقها تجاه الإنسان ذاته من خلال «تسلع الثقافة» و«الثقافة المعلبة» أظهرت حالة من الرفض، إذ أضحت الثقافة تحت هيمنة السلطة ومفرزاتها. وتبدى الرفض أيضاً في المجتمعات ما بعد الصناعية من خلال ما عرف عن انزلاق الليبرالية في تصنيعها منتجات في «معامل العرق»-Sweatshop بلا أي احترام لآدمية الإنسان في بلدان حليفة سياسية لقوى الغرب فلا تنتقد سياسياً أو رسمياً لعدم احترامها لحقوق الإنسان العامل.

هذه الانزلاقات للليبرالية جميعها أبانت أن «الحداثة» بقيمها قد أضحت في مأزق، وأن العدمية قد نالت من قيمها، واستوجب تدشين مرحلة أخرى جديدة ترسي عدم الثبات في الأشياء، والسماح للفوضى لخلق نوع من التجديد من خلال إطاحة أي قيمة أو قاعدة في أقرب فرصة طالما تثبت عدم صلاحيتها في الأستمرار.

إن الجدل والشروح والمواقف التي تطرح حول «الحداثة» أو ما بعد «الحداثة» من الواضح أنها لا تستند إلى وقائع وأحداث واضحة يمكن اعتبارها بمثابة منعرج تاريخي ليفصح عن نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة، ولربما ذلك راجع لإيقاع السرعة في حياتنا، ولأنه بذات اللحظة ثمة نوع من الفوضى صارت تحكم تلابيب نمط حياتنا بسبب الإيقاع السريع ذاته. إلا أن محمد الشيخ وياسر الطائري في كتابهما «مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة»، عن دار «الطليعة» ببيروت؛ يدفعان بأن انعدام لحظة فاصلة، كحدث أو واقعة، يمكن اعتبارها مؤشراً لنهاية «الحداثة» وبداية ما بعدها، مرده لأن الأمر يقوم على بنيات إحساس أو Structures of feelings, لا بنيات واقع Fact. فالنسبية في الحس بين البشر شيء بارز، حتى حين تسميتنا للحظة نهاية «الحداثة» وشروعنا في ما بعدها.

فما بعد «الحداثة» هي حالة ضد تمجيد النزعة الوضعية والتقنية والعقلانية، وتعارض الأعلاء من شأن التقدم الأحادي الجانب أو الإقرار بالحقائق المطلقة، وضد توحيد أنماط المعرفة، فعصر ما بعد «الحداثة» هو عصر التنوع، واللاتحديد، وعصر التحفظات على الشمولية في الفكر وفي الخطاب.