Atwasat

حتى لا يقول الفلسطيني «يا وحدنا»

بشير زعبية الإثنين 30 نوفمبر 2020, 11:31 صباحا
بشير زعبية

لعلني كنت محظوظًا كصحفي أن أكون في سنوات ما قريبًا من حراك فلسطيني مهم، في فترة هي من أخطر المراحل التي مرت بها القضية الفلسطينية، وأعني تلك العشرية الثمانينية من القرن الماضي، فقد عاصرت بحكم وجودي مراسلًا في سورية وامتداد المهمة إلى بيروت حين كانت القرارات الكبرى تطبخ في دمشق، الاجتياح الإسرائيلي للبنان، الذي كان من أبرز نتائجه خروج المقاومة الفلسطينية من هناك إلى الشتات، ثم حركة التغيير أو الانشقاق أو ما عرف فيما بعد بالانتفاضة داخل «فتح» كبرى فصائل المقاومة الفلسطينية على أيدي مجموعة من أهم قيادات الحركة، منهم أبوموسى وأبوصالح وخالد العملة، وتداعياتها التي ظهرت في الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني من طرابلس لبنان إلى المخيمات، وأخيرًا إعلان المجلس الوطني الفلسطيني استقلال الدولة الفلسطينية خلال دورته التي انعقدت في الجزائر العام 1988.

لذلك عندما أكتب عن القضية الفلسطينية لا أعتبر نفسي بعيدًا عن هذا الشأن، إلى ذلك فأنا، كمواطن عربي، لديَّ من حق الأخوّة أن أتحدث عن قضية هي الأهم والأخطر في تاريخ القضايا العربية، بل الإنسانية المعاصرة، هذا شعور أستحضره في معرض التعليق على أخ فلسطيني رأى بشكل ما أن ليس من حق من لم يعش الثورة الفلسطينية ونضالها ضد العدو أن يتحدث عن خيارات الفلسطينيين، وكانت المناسبة حوارًا دار حول المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، حيث يرفض الأخ هذه المفاوضات ولا يرى بديلًا لها سوى المقاومة، بينما أيدها محاور عربي آخر ورأى أنها ممكنة، وهو حوار يكاد يكون تكرارًا لحوار نشر في إحدى المدونات وشاركت فيه بالرأي، وربما هي فرصة أتيحت لأؤكد بعض القناعات التي تبرر لي الخوض في نقاش ما يتعلق بالقضية الفلسطينية.

لا بد من التنويه أولًا إلى عنصر مهم في المسألة بما قد يظهر فيها من تناقضات المقاومة والمفاوضات، فأن تبدو القضية حاضرة بمثل هذا التوهج والقدرة على الإحساس والتحسيس بالوجع، وكأن عامًا فقط مرّ على نكبة الاغتصاب وليس ستين عامًا وأكثر، فهذا أمر يفرض فسحة التفاؤل كلما حان الكلام عن فلسطين: هل استراح الشعب الفلسطيني يومًا؟ هل استراح الاحتلال يومًا؟ بل هل استراح العالم يومًا؟ 

وسأُلحق استهلالي أيضًا بشيء من العتب النقدي للأخ الفلسطيني العزيز الذي رأى «أن المثقف مهما بلغت ثقافته لا يمكنه، وربما لا يحق له أن يخوض هذا النقاش، ويحاكم من خاضوه حتى لو كانوا فاشلين، إلا إذا دخله من زاوية خوض النضال»، وأنا أحترم هنا تجربة هذا الأخ باعتباره من أهل الداخل لكن لا أرى مستوجبًا لمصادرة «الخارج» في خوض النقاش والحوار. ثم إن من حق المثقف أن يسهم في نقاش أي قضية، فما بالك بقضية تمسه مباشرة ولا بد أن يكون دائمًا قريبًا منها. إن صرخة «يا وحدنا!» لم يطلقها الفلسطيني يومًا إلا حين أحس بابتعاد الشقيق، وقد أطلق محمود درويش تلك الوجيعة شعرًا في قصيدته «مديح الظل العالي»: «لا إخـوةٌ لك يا أخي، لا أصدقاءُ يا صديقي».. ثم «كم كنت وحدك يا أخي» و«لا أحد إلاك في هذا المدى المفتوح من العذاب والنسيان».

ثانيًا: لا أجد نفسي موافقًا على مبدأ أنني لو كتبت عن الثورة الكوبية فلا بد أنني كنت يومًا هناك رفيقًا لـ«تشي جيفارا»، أو أن أكون قد عشت في طهران و«قم» ساعات السقوط الأخير لشاه إيران حتى تكتسب كتابتي عن الثورة الإيرانية «إبان زخمها الشعبي» شرعيتها، هناك من كتب وانتقد الثورة البلشفية، وما زال يكتب عنها، دون أن يزور أية مدينة أو قرية روسية، فما بالك بنا نحن حين نكتب عن فلسطين وتفاصيل فلسطين، أما فيما يتعلق بالحديث عن «المقاومة والمفاوضات» فأنا صرت من المتحسسين من التعاطي المطلق مع مثل هذه الثنائيات على مبدأ وجوب أن يكون الأول نقيض الثاني، أو حضور الأول يستوجب نفي الثاني، لماذا لا تكون هناك تقاطعات أو مكملات بين الاثنين لإنجاز معطى إيجابي. وأسقط هنا على المقاومة والمفاوضات فليس بالضرورة أن يلغي أحدهما الآخر، فقط هي مسألة الاتفاق على الهدف ولمَ لا: النهج؟ مع الإدراك الواعي لموقع المتفاوض في مسار المفاوضات ومناخها وشروطها، وأنا أتحدث عن مطلق مفاوضات ولا أقصد تلك التي تجري بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي من حين لآخر، والتي يخلّ أساسها ومسارها بكثير من الشروط المفترضة لمفاوضات ندية جادة. فأنا أرى أن المفاوضات بظروفها وشروطها الصحيحة تمنح أصحاب القضية مساحة أكبر للمناورة في سياق النضال من أجلها، «التجربة الفيتنامية مثلًا»، ثم هناك التجربة الجزائرية، وكلتاهما أنجبت الدولة المستقلة الحرّة ذات السيادة القابلة للحياة.

وأعتقد أن جزءًا كبيرًا من الخلل في الحالة الفلسطينية هو محاولة تثبيت رؤية «الأيديولوجي نقيض السياسي وبديله» وما ولّده ذلك من خلافات واحتقانات وتجاوزات جعلت القضية عرضة لتأثير تيارات الرياح القادمة من وراء الحدود، فقد يتقاطع الأيديولوجي مع السياسي في نقطة الوطن، وهي النقطة الهدف الذي يبرر حركة المقاومة برمتها، وحتى لا تكون مقاومتنا عدمية وأبدية لا بد أن يحضر السياسي حين يستريح المقاوم ويجدد نفسه، كما لا بد للمقاوم أن يحضر حين يتعثر السياسي وينكفئ، لكن في حالة كهذه لا بد أن ندرك أين نقف وكيف نتحرك ونحدد خطواتنا، ثم إلى أين نسير وأين المستقر؟ حتى لا تكون المفاوضات فقط من أجل المفاوضات.