Atwasat

ترحال:من وحي «الربيع العربي»: مثَلُ الضبع والحمار

محمد الجويلي الأحد 13 يوليو 2014, 01:30 مساء
محمد الجويلي

«قلب الداب» حكاية مَثَليّة من التراث الشعبي اللّيبي التونسي المشترك متداولة قديمًا لدى القبائل التي كانت تعيش معًا في الرقعة الجغرافية التي أصبحت منذ الغزو الاستعماري تسمّى بالمنطقة الحدوديّة، تتحدّث عن أسد أمر ذئبًا بأن يأتيه على عجل بقلب حمار كان في أمس الحاجة إليه، شعر الذئب بثقل المهمّة واستشعر العواقب الوخيمة لعدم تلبية رغبة سيّده وسيّد الوحوش جميعًا على الفور، فطفق يبحث عن حيلة للإيقاع بالحمار ولم يجد أفضل من الضبع لمساعدته على إنجاز هذه المهمّة.

مؤامرة نسج خيوطها الذئب بتواطؤ من الضبع للإيقاع بالحمار واستئصال قلبه وتقديمه لسلطان الحيوان الأسد.

قصد الضبع وأعلمه بأنّه سيستدرج الحمار إليه ليفترسه كلّه على أن يترك له القلب، وافق الضبع على ذلك فانصرف الذئب إلى الحمار وقال له «ما بك هزيل الجسم، ضعيف البنية تكاد تموت جوعًا. انظر إلى تلك المروج الخضراء التي تلوح في الأفق. اذهب إلى هنالك لتأكل هنيئًا وتشرب مريئًا. هيّا توكّل على اللّه». أجابه الحمار وكان لا يبعد عنه إلّا بضعة أمتار «هنالك، هنالك يوجد الضبع سيفترسني». قال له الذئب «ألم يبلغك خبر الضبع.

لقد أصبح وليًّا صالحًا وزاهدًا في الدنيا يقضّي الأيام واللّيالي في العبادة والتقرّب من اللّه وانقطع عن أكل اللّحم، أصبح عاشبًا مثلك بل يكتفي من الحشيش بما يسدّ به رمقه فقط». «أصحيح ما تقول» همهم الحمار. «أقسم باللّه العظيم» حلف الذئب. سار الحمار صحبة الذئب ولمّا اقتربا من الضبع رفع ذيله وقوائمه إلى السماء. خاف الحمار وتقهقر إلى الوراء فنهره الذئب «ما لك. إلى الأمام سر». ردّ الحمار «انظر كيف رفع الضبع ذيله وقوائمه، إنّه سيفترسني لا محالة» قال له الذئب: «لا يا غبي إنّه يتضرّع إلى السماء ثمّ هو فتح ذراعيه لاحتضانك من فرط شوقه إليك ورفع ذيله مهلّلاً ومرحّبًا بك. تقدّم ولا تخف». تقدّم الحمار نحو الضبع فارتمى عليه وافترسه ولم يترك منه شيئًا عدا العظام. أين قلبه؟ سأل الذئب الضبع فقال له «لو كان للحمار قلب لما قدم بنفسه إليّ».

الحكاية مؤامرة نسج خيوطها الذئب بتواطؤ من الضبع للإيقاع بالحمار واستئصال قلبه وتقديمه لسلطان الحيوان، الأسد. حاجة الأسد لهذا القلب على ما يبدو ملحّة والذئب في حرج، فلا بدّ له من تلبية شهوة السلطان حفاظًا على نفسه وشهوة السلاطين، كما نعلم، لا تردّ.

كثيرٌ من الشخصيات تظهر ما هو ليس من جوهرها وهذه الحقيقة تكشف عنها الثقافة الشعبيّة الشفويّة

الحكاية في شكلها عبارة عن سيرورة استدراج وغواية، والشخصيات إما مُغروِّرة أو مُغَرّر بها. الأسد وحده ظلّ خارج الأحداث. فهو حاضر في الحكاية بشهوته فحسب. الحمار مُغرّر به من البداية إلى النهاية. والذئب وهو المُغرِّر الأكبر الذي برع وتفنّن في الإيقاع به انقلب في نهاية الحكاية إلى المُغَرَّر به الأكبر. كنا نعلم منذ البداية أنّ الحمار واقع لا محالة، فهو في الخيال العربي رمز للبلاهة والغفلة، أما وقوع الذئب وخروجه بخفي حنين، فهو أمر غير متوقّع ومفاجئ.

اعتقد الذئب أنّ بإمكانه استعمال الضبع أداة لتحقيق مآربه، فإذا به يتحوّل إلى أداة استعملها الضبع للظفر بالحمار، فانتهى في الحكاية أشدّ بلاهة من الحمار وأكثر غفلة، في حين كنّا نعتقد أنّه رمز الدهاء والمكر. عاقبة الذئب ستكون وخيمة، لا شك في ذلك، وعلى الرغم من أن الأحداث لا تعلمنا بفحواها فإننا نتوقّع أنّ الأسد لن يغفر له فشله في تلبية حاجته.

إذا تأمّلنا في عملية استدراج الحمار وجرّه إلى مصيره المأساوي ننتهي بالقول إلى أنّ ذلك تمّ عبر ثلاثة مؤثرات استجاب لها الحمار بالقبول. هذا القبول متردّد وقد تعمّدته الحكاية لأسباب جماليّة. المؤثر الأوّل يتمثّل في خطاب الغواية، خطاب الذئب وما يتضمّنه من حجاج لإغراء الضبع بافتراس الحمار مع ضرورة ترك القلب ولتحفيز الحمار على الذهاب إلى الضبع. أما المؤثران الآخران فموضوعهما هو الحمار وحده.

المؤثّر الأوّل غريزي يتعلّق بالإشباع. الحمار جائع وضعيف البنية ويبحث عن الكلأ والذئب عرف من أين تُؤكل كتف الحمار أو قلبه. وقع الحمار في شرك غريزته. والحكاية هنا رمزية تحذّر من مغبّة الانصياع إلى الغريزة التي تدفع إلى الهلاك، وتدعو ضمنيّا إلى الاستجابة لنواميس العقل. الحكاية الشعبية من إبداع جماعة أميّة، ولكن قيمتها في كونها تعبّر بطريقة عفوية عمّا دعا إليه حكماء الإغريق والفرس والهند والعرب من ضرورة كبح جماح الغريزة ووجوب الحذر منها، كما أنّها تحذّر من عواقب المكر الذي كثيرًا ما ينقلب على صاحبه ويقوده إلى الفشل.

الحكاية عقلانية في وجه من وجوهها، عقلانيّة عفويّة. ولكنّها لا تخلو من عمق، على غرار عقلانيّة الفلاسفة، وهذا ما نستشفّه كذلك عند تفكيكنا للمؤثّر الثاني:


وهو مؤثّر أمني، وذلك بأن يُظهر الضبع ما لا يبطن أو بأن يؤوّل ما يظهره عكس ما يبطنه. هذا المؤثّر على علاقة وثيقة بثنائية الكائن والمظهر، أي ما يبدو من الكائن الفرد وما يبطنه، أي حقيقته. ما يظهره الضبع هو ما نصحه الذئب بأن يتظاهر به ومن شأنه أن يطمئن الحمار ويحفّزه على المضي إلى نهايته: الورع، التقوى، البركة، التصوّف، الزهد في الدنيا، بل التحوّل إلى حيوان عشبي من فصيلة الحمار ذاته.

كثيرٌ من الشخصيات في المجتمع تظهر ما هو ليس من جوهرها، وهذه الحقيقة تكشف عنها الثقافة الشعبيّة الشفويّة، ولا سيما عندما يتعلّق الأمر بشخصيات تدّعي التدين والورع وتتلحّف بالمقدّس لإخفاء نوازعها العدوانيّة والدنيويّة، بل الحيوانيّة الدفينة، في الهيمنة والتسلّط والحكم، حتّى وإنْ لم تكن واعية بها، وتعتقد أنّها مقدّسة، في حين أنّها في عمقها دنيويّة صرف، بل تقطر دنسًا. فالحكاية لها مضمون سياسي، لا شكّ في ذلك، يتعلّق بما يسمّيه ابن خلدون بالمُلك الطبيعي الذي يعتمد على القهر والغصب والغلبة، ولكن خطورته هنا تتولّد خاصة من تدثّره بالوازع الديني وتلوّنه بالقداسة.

الوجه الآخر لهذا المؤثّر يعتمد على تأويل الذئب لحركة الضبع وقد اعترض فريسته رافعًا ذيله وقوائمه على أنّها من فرط فرحه بلقائه، تمامًا كفرحة الحبيب برؤية حبيب اشتاق إليه فهم لاحتضانه فاتحًا ذراعيه. وشتان بين الانقضاض والاحتضان والخلط المتعمّد بينهما هو الذي يولّد السخرية والضحك. الضحك ينبع هنا من تأويل الشيء بضدّه، بنقيضه الجدلي كما ينبع كذلك من المفارقة بين حقيقة الضبع باعتباره حيوانًا متوحّشًا ودمويًّا وصورته التي نسجها له الذئب باعتباره كائنًا تائبًا توبة نصوحًا، فاضلاً وصالحًا حريًّا بأن تسلّم له كلّ الحيوانات أمرها ومسؤولية السهر على شؤونها والحكم بينها بالعدل والنُّصْفة. وهنا لا ينكشف عمق الضحك الشعبي إلاّ إذا سحبنا هذه المفارقة في الحياة الإنسانية في مستوياتها السياسيّة والاجتماعيّة وغيرها حين تقدّم لنا شخصيّة أو جماعة نعلم سابقًا أنّها بالجبلّة لا تتورّع عن ارتكاب جرائم بعضها قد تقتضيها سنّة الحكم في مجتمع إنساني ما زال يقبع الحيوان المتوحّش في دهاليزه في شكل ولي صالح طاهر، فاضل وزاهد في الدنيا. لكنْ حذارِ من تأويل الحكاية تأويلاً خاطئًا، فهي تفرّق بين المتدين والورع حقًّا الذي شذّب العدواني فيه وروّضه، وبين مَن يتلحّف به، حتّى وإنْ لم يعِ ذلك، بدافع الغريزة الدنيوي وشهوة السلطة والحكم.