Atwasat

يوسف الشريف.. الأيام والخلاصة وحكايات العصافير

القاهرة - بوابة الوسط السبت 31 يوليو 2021, 11:50 صباحا
WTV_Frequency

نحت الكاتب يوسف الشريف قاموسه الخاص، بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب، يعبر مجال السرد محملاً بالأحلام وبكثير من الدموع والآلام، وكذلك بتبصر يلاحق شواغل الأحداث وتوابعها وانعكاساتها ابتداءً من طفولته وانتهاءً إليها، لا يروم عوالم الأوان الرمادية لذا يلجأ غالباً إلى التفكر بعيداً عن الضوضاء مستسلماً إلى موسيقى روحه الساكنة في قلبه وخياله الجامح إلى النقاء.

ولكن كيف يفسر الشريف واقعه عبر نتاجه الأدبي.. وما المحطات التي ترينا جانباً من أسئلته وارتداداتها.

في قصة «طائر الليل» من مجموعته القصصية «الأقدام العارية» يلمح الشريف إلى المجهول ككائن خرافي يحاول إنزاله إلى الأرض وتبيُّن ملامحه، وهو يوظف كل إمكانات واقعه إلى تقفي هواجس هذا الكائن الخفي «المجهول»، نبض يغوي مساءلة العقل والخيال وتفجير كوامن تساؤلاته المتواصلة، يقول النص: «صمت صاخب اكتسح الجميع ـ استحال البيت إلى مقبرة امتص همهمات النساء، حدث كل شيء كما أراد، اختار المكان والزمان ـ عندما علق أحد أصدقائه على اختياره قال باطمئنان (متخافش)، لكن الخوف أصبح سرادبا بلا نهاية ـ بدا المنتظرون يتراجعون، بعضهم تلاشى كنفثة دخان ـ والبعض الآخر يبحث عن الدفء في زجاجات تختفى بين اللحم والثياب، بعض الرجال التصقوا بالجدار. الصغار أحسوا أن في الأمر شيئاً فتجمعوا يتهامسون يصنعون من المجهول حكاية».

لا يتوقف هذا القلق عند الأقدام العارية، ولكنه يتواصل مع عمله اللافت «الجدار» وهو يعاين غبار وجدار وشخوص عالمه الأول بزنقة الباز، معلناً ولادة نمط حياتي جديد، بادياً في الإعلان عن نفسه بقوة، ليشكل فيما بعد مفازة أخرى لأسئلة الشريف.

منظور آخر
يمثل كتاب «الأيام الجنوبية» للأديب يوسف الشريف نافذة مهمة لرؤية الحياة من منظور آخر، وأسهمت في صياغة وعيه الثقافي، الذي تشكل في مرحلة مبكرة من عمره، ثم تنضج أبعادها في ذاكرته الثمانينية ليترجمها كتابة في هذا المؤلف.

وتطرق الناقد منصور بوشناف في رؤيته إلى الزمن التي تبلورت فيه السيرة الجنوبية للشريف، والذي كانت فيه ليبيا -آنذاك- تنفض عنها غبار الحرب العالمية الثانية، وتحولت إلى ورشة ضخمة تعيد ترميم خردة ومخلفات ما بعد الإعصار؛ حيث كانت الشاحنة التي ركبها يوسف الشريف والمعطف الذي يرتديه أحد أبرز مكاسبه.

ويضيف بوشناف بالقول: «الشاحنة لم تكن وسيلة نقل أوصلت بطل السيرة من الشمال إلى الجنوب فقط؛ بل جسر للحياة وشريان يتدفق منه الطعام والمعرفة والدواء من طرابلس إلى أقاصي الجنوب، كما أن الرحلة في هذا التدوين أشبه بمفتتح لسيرة الجنوب كاملاً، وصورة أولية لعوالم تختفي وراء كثبانه العالية، لها طقوسها وسحرها ولونها ووقعها الخاص، في وقت كانت فيه ليبيا تتحضر للانتقال من حالة ما بعد الركام، إلى وضع تلمس فيه طريقها للنهوض.

محاولة للاكتشاف
يقف الكاتب رمضان سليم عند المضمون الفلسفي الذي يرسمه غلاف كتاب «الأيام الجنوبية» والتقسيم الزمني الذي يعكسه؛ حيث يمثل الجزء العلوي صورة الكاتب وهو يرتدي المعطف عندما كان طالبا، ثم صورته في مرحلة متقدمة من العمر بالجزء السفلي للغلاف، فهو يقدم لنا مقارنة بين زمنين، وعالمين في عالم، أو تجربة يوسف الصغير التي كونت وعي يوسف الكبير.

ويشير في ملاحظته إلى أن الرحلة هي محاولة للاكتشاف وفهم الحياة بصورة أعمق، لطفل كان يعيش في زنقة الباز بطرابلس، ليجد نفسه في نقلة فلكية بـ«ونزريك» سنة 1957.

مضيفا أنه على المستوى النصي يمكن مقاربتها سرديا من أسلوب ما يمكن تسميته رواية الطريق في مرحلة أولى من السيرة، ثم تتجه لتقنيات رواية المكان في مرحلة لاحقة عند نقطة الوصول.

ويلمح الكاتب رضا بن موسى إلى أنه محاولة لقراءة سيرة الأيام الجنوبية، حيث مثلت ونزريك صيرورة الذات وتجربتها المبكرة، فنقرأ عن سيرة الفتى الواعد في مرحلة مفصلية يحتدم فيها الصراع بين واقع أليم، وآخر أراد أن يكون للوجود معنى.

ويخلص بن موسى إلى أنه في كل تلك الانفعالات والأفكار والأحلام، تتمظهر الصورة الأبرز لملامح السيرة، مصاغة في السؤال المسكون بالإجابة، كيف نغير العالم؟ ويضيف في ملاحظة أن الكتاب يخرج من كونه وثيقة تاريخية، وينحاز إلى ذاتية السيرة بحكم تكوينها الوجداني، وخلفياتها الاجتماعية.

تجربة مثقف
يشخص الشاعر سالم العوكلي مضمون رؤية الكاتب يوسف الشريف في مؤلفه «الخلاصة» بالقول «يغوص المنقبون عن الذهب في الوحل، يغربلون أطناناً من التراب كي يحصلوا على غرامات قليلة من الذهب، هذا ما يسمونه الخلاصة، بالمعنى نفسه الذي يعطيه الكاتب يوسف الشريف لكتابه «الخلاصة: أسئلة وكلمات» الصادر عن مكتبة طرابلس العلمية العالمية 2017».

ويرى من خلاله أن المؤلف يحاول بلورة تجربة مثقف شغوف بالأسئلة في مجتمع شغوف بالأجوبة الجاهزة، ولم يسع من خلال هذا السرد لأن يكتب سيرة بالمعنى الأوتوبيوغرافي التقليدي، لكنه عمل على غربلة معيش هذه السنين الطويلة من أجل الحصول على خلاصة يقول عنها في مفتتحه الإجباري «هي ليست خلاصة سيرة ما بين ميلاد وموت».

ويضف العوكلي أن الشريف يعيد الاعتبار للقلب حين يفكر ويسأل في زمن كان التغني بالعقل كوجيتو المثقفين الذين يعتقدون أن الفكر تلوثه العاطفة، غيّر أن هذا الكتاب الذي تمليه الحواس جميعا على مؤلفه يقول أن المعرفة تدين للتجربة، وأن التجربة لا يمكن أن تمارس إلا بالحواس جميعها، لذلك يدين الكتاب في جل فصوله لكل ما سمعه ورآه ولمسه وشمه وقرأه وتذوقه المؤلف في كل هذه السنوات، وهذا المزيج الشامل من مصادر المعرفة ومن تحسس الأسئلة بالأذن والعين والأصابع يجعل من هذا الكتاب/ الخلاصة متفردا إلى حد كبير؛ حيث يحل فيه صراع الأسئلة والثيمات محل الترتيب الزمني، وكرونولوجيا الشغف بدل ترتيب المراحل، فلكل فصل عنوان خاص، وكل عنوان حكاية، وكل حكاية لها شخوصها التي تظهر وتختفي بعد أن تركت ذكرياتها منحوتة على جدار القلب الكبير.

اللغة والمضمون
في مقاربتها المتواضعة لجماليات اللغة والمضمون في مجموعة «حكايات العصافير» الصادرة عن مجلس الثقافة العام «2008»، حاولت الشاعرة حواء القمودي إلقاء الضوء على استغلال الكاتب يوسف الشريف لجماليات اللغة ليرسل من خلالها المعاني والمضامين التي يريد لعقل ذلك القارئ الصغير وتلك القارئة الصغيرة أن يتفتحا عليها ويكتشفا إمكاناتها في إثراء حياتهما، وأول مفتاح هو اختيار الكاتب لهذا الكائن المغرد الصغير القريب إلى النفس الطفلة، هذا العصفور الذي يُثري عشر حكايات، ومن خلاله يضيء الشريف معانيه المنتقاة ومضامينه الهادفة، إذا عشر حكايات، وفي اختيار مفردة «حكاية» انحياز لفعل الصداقة مع هؤلاء القراء والقارئات الصغار، فالحكاية التي تنبثق عن الفعل «حكى» تمنح دلالة الانفتاح على الواقع، فكأن هذا الحدث «المحكي» وقع فعلا، وكأن الكاتب/ هذا السارد، ماهو إلا أب أو جد تتكئ مخيلة الطفولة على ركبته وهو يحكي، وكأن الكاتب حين ابتعد عن كلمة «قصة» أراد أن يجعل من «الحكاية» فعل مشاركة يستطيع الطفل أن يضيف إليه ويرسم تفاصيل أخرى في الحكاية، وقد تنوعت أساليب الكاتب في اختيار مداخل الحكايات.

وتشير القمودي في ملاحظاتها أن «شبه الجملة» استأثر بأربع حكايات وهي «حكاية عصفور سافر مع الشمس» ص4 وهي الحكاية الأولى و«حكاية عصفور على زجاج نافذتي» ص16 و«حكاية عصفور ووردة» ص56 و«حكاية عصفور وحمامة» ص62، والكاتب في هذا الاختيار يُشعر قراءه الصغار بحميمية الحدث وقربه منه، فهو حين يبدأ حكايته قائلا: «قبل شروق الشمس بقليل استيقظ العصفور» ص4 أو «في يوم من أيام الربيع» ص62، كأنه يخاطب صديقا حميما ويكمل له حكاية كان قد بدأها قبل ذلك، إنما يريد أن يتأكد من أن صديقه الصغير يتذكر هذه الحكاية، والتي ستجيء هذه المرة بتنوع واختلاف عن تلك الحكاية الأولى، لكن في عمقها هي استكمال لتلك الحكاية.

وتلمح الشاعرة إلى جعل الكاتب من الاستفهام أحد الأساليب التي تساعده في تعميق رسالته وإيصال فكرته إلى عقل ووجدان هؤلاء الأصدقاء والصديقات، لذا نجد أغلب القصص احتوت على تقنية السؤال، والذي من خلاله يريد الكاتب أن يؤكد لأصدقائه وصديقاته أن السؤال هو بوابة المعرفة، وأن معرفة إجابة السؤال الذي نجهله دليل على معرفتنا وليس على جهلنا، لذا علينا ألاّ نخجل من السؤال وتكراره حتى نتيقن الإجابة وأن نستفهم عند كل إجابة حتى لا نخطئ الوصول إليها، في «حكاية عصفور سافر إلى الشمس» ص4 نجد هذا العصفور الشغوف بالمعرفة الذي يبدأ باستفهام استنكاري لصديقته الشمس التي أخبرته أنّها كبيرة ومضيئة وفي كل مكان.

أول معجم لغوي
ويسلط الناقد يونس الفنادي الضوء على أحد أهم اصدرات الكاتب يوسف الشريف وهو «المُعجم الميسر للأطفال» الذي يعد أول معجم لغوي عربي مصور وموجه للأطفال على مستوى الوطن العربي، قام بإعداده وإصداره سنة 2001 بمدينة طرابلس.

موضحاً أن هذا المعجم التعليمي التربوي يقع في أربعمائة وثمانين «480» صفحة من الحجم الكبير مدعوماً ومعززاً بالعديد من الرسومات الملونة الجميلة الموضحة لكل حرف من حروف الأبجدية العربية «من الألف إلى الياء» وتوظيفها فنياً لتقريب المعاني لذهن الطفل العربي الذي يصر الأستاذ يوسف الشريف على مخاطبته من خلال الحرف والصورة معاً، لتأكيد أهمية أدوات التواصل الحرفي والبصري والسمعي مجتمعة في تعليم الفكر الطفولي والوصول به إلى درجة الاستيعاب والفهم المطلوبة، وبالتالي مساعدته على تحريك عقله ذاتياً والتفكير في دلالات الصور المرسومة لهذا الغرض وغيرها من الأشياء الأخرى.

وأشار الفنادي في إضاءته إلى إجادة الأستاذ يوسف الشريف استعمال لغة مخاطبة مبسطة وهادفة يمرر فيها بكل يسر وسهولة معلومات ومعارف متنوعة للطفل الذي يخاطبه في تقديمه للمعجم «هذا هو «المعجم الميسر للأطفال» لكَ أنتَ أيها الطفل ومن أجلك، كتبتُه لتستفيد منه كما يستفيدُ الكبارُ من معاجمهم، وليكونَ لك رفيقاً في بيتك ومدرستك. ويمكن أيضاً أن يكونَ أهم كتابٍ في مكتبتك، يساعدك ويعطيك المعرفة والمتعة، في أي وقت، وفي أي مكان. وقد حاولتُ فيه، قدر جهدي، أن أجعله بسيطاً في كلماته، واضحاً في معانيه، فشرحتُ لك كلَّ كلمةٍ في أكثر من جملة، ورتبته حسبَ الحروف الهجائية سواء في الحرفِ الأول أو في الحروف التي تأتي بعده، وهو في هذا لا يختلف كثيراً عن معاجم الكبار، وما عليك إلاَّ أن تعرف ترتيب الحروف لتجد الكلمة بكل يسر وبلا عناء».

مشيداً إن الجهد الذي بذله الأستاذ يوسف الشريف في إعداد «المعجم الميسر للأطفال» والسنوات التي أنفقها في ذلك لا تقدر بثمن، حيث ظل عاكفاً على تجميع المعلومات وترتيبها وإخراجها بكل محبة للطفل سنوات عديدة، تأكيداً على المسئولية الملقاة على عاتق الأدباء والكتاب والمختصين في التربية والتعليم لإعداد هذا الكائن الإنساني الطفولي الذي نسعى لتوجيهه وتعبئته وتنميته فكرياً بما يحقق له السعادة والبهجة الداخلية الخاصة، ولوطننا شعباً من الأطفال المتميزين ليصنعوا جيلاً خالياً من العقد ومغموراً بالمحبة والعطاء والإيمان بالله والوطن والإنسان.

يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)
يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)
يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)
يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)
يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)
يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)
يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)
يوسف الشريف نحت قاموسه الخاص بمفردة يمتزج فيها الإنسان والكاتب (بوابة الوسط)

المزيد من بوابة الوسط

تعليقات

عناوين ذات صلة
طنجة المغربية تجذب كبار موسيقيي الجاز
طنجة المغربية تجذب كبار موسيقيي الجاز
الفنان مهدي كريرة يُدخل البهجة على أطفال غزة ويصنع الدمى من بقايا المساعدات (فيديو)
الفنان مهدي كريرة يُدخل البهجة على أطفال غزة ويصنع الدمى من بقايا...
المنتج هارفي واينستين في المستشفى
المنتج هارفي واينستين في المستشفى
«غسوف.. غدامس القديمة» يشارك في مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي الدولي
«غسوف.. غدامس القديمة» يشارك في مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي ...
مأساة غزة تهيمن على «عنابة للفيلم المتوسطي» (فيديو)
مأساة غزة تهيمن على «عنابة للفيلم المتوسطي» (فيديو)
المزيد
الاكثر تفضيلا في هذا القسم