صُعد المهندس خليفه الجروشي امينا للجنة الشعبية للثروة البحرية في بنغازي وحاول من البداية أن يقدم شيئا لصيادي السماك في بنغازي، كانوا في ذلك الوقت يعملون بأنفسهم، فلقد خلت ليبيا من العمالة المصرية اثناء القطيعة مع مصر في زمن انور السادات، لم يكن هناك من عمالة سوى بعض السوريون والفلسطنين وأيضا توانسه، غير أن رياس البنكينة كانوا اكثر تفاهما مع المصريين. بالإضافة إلى مشكلة ندرة العمالة كان هناك نقصا شديدا في مستلزمات الصيد.
اتصل بي المهندس خليفة الجروشي، وأخبرني يريد أن يعرف مشاكل الصيادين، فأقنعته ان السبيل الأسلم هو الانضمام الينا في( البنكينه) والتعرف عليهم، وأن يسمع منهم مباشرة.
ومنها صار المهندس خليفه من رواد (البنكينه) ومن عشاق (الحرايمي). لم تكن لامانته ميزانية مقنعة للإنفاق منها على قطاع الصيد، ولكنه تمكن من توفير الكثير من نثريات الأمانه، وتمكن من الحصول على موازنة بسيطة وفر من خلالها قيمة استورد بها عن طريق الشركة معدات بسيطة من صنار وحرير وشباك وكانت بالفعل عونا كبير للصيادين. ثم تمكن بعد مدة من التعاقد على بضعة بناء مراكب. الحقيقة قام بجهود بسيطة ولكن في وقتها كانت كبيرة ولو قدر ان استمر في منصبة لنفذ الكثير من المشاريع.
في تلك الاثناء كان هناك اجتماع في موريتانيا لمناقشة اوضاع شركات كثيرة انفقت الدولة الليبية الكثير عليها ولكن لم يكن هناك مردود يذكر نتيجة سوء الإدارة وطبيعة الموريتانيون في التعامل. ولعل موقف المهندس خليفه الجروشي وانتقاده للفوضى والتسيب هي التي عجلت باقصائه عن منصبه، اما التفاصيل فلم تعد لا مجدية ولا تخدم احد، ولكن يحسب في تقديري للمهندس خليفه موقفة في تلك الاجتماعات.
ما يهمني في هذا الموضوع هي تلك الليلة التي دعانا خلالها أحد المسئولين الليبين المقيمن في نواكشوط لعشاء في بيته، تلك الليلة اخذت بمهارة طاه جزائري اعد لنا اطباقا سمكية لم اذق مثلها في حياتي كلها، منها طبق خلاصته شرائح رفيعة، كورقة السيجارة، لا أدرى كيف تمكن من اعداد هذه الشرائح، التي لها مذاق يختلف عن مذاق أي سمك أكلته في حياتي، ومن بعد جهد عرفت منه أن السر في هذا الطبق هو طريق قص شرائح السمكة، أما الباقي فيتكفل به الفلفل الأسود الطازج غير المجفف وإنما المخلل. يسكب بين الشرايح وتترك السمكة في البراد من الصباح حتى الليل، يعني أنها ليست مطهية وإنما نضجت وصَلحتْ للأكل بفعل الفلفل الأكحل المخلل! السر ايضا في أن السمكة الوحيدة التي تنفع لهذه الوصفة هو (المناني الأبيض) الذي يسميه الصيادون في بنغازي ( حولي البحر)!
تمادى الليل، وكان فندقنا بعيدا، وبيت مضيفنا قصر صغير بغرف كثيرة! واصر أن نقضى الليلة هناك، وهذا ما حدث، غير أنني عند الفجر سمعت صراخا موحشا فقزت من عميق نومي. فتحت باب غرفتي ، كان الشاب الجزائري أمام بابي كما لو أنه يتوقع خروجي سألته منزعجا، فقال لي: " .. كان ينبغي أن انبهكم، عموما هذه حالته كل ليلة ما أن يستغرق في النوم حتى يعلوا صراخه، كما لو أن احلاما مزعجة تحاصره.. ولكنه يقوم صباح اليوم التالي، طبيعيا جدا بل وسعيدا، مثلما رأيتموه البارحة .. ".
بعد تلك الفحادثة التقيت بشخص يعرفه، منه علمت أنه شخصية طيبة ولكنه تورط في " التصفيات الثورية " التي لاحقت معارضي القذافي، ولكن يبدو أن مكافأته وما جناه من منصبه هذا لم يخمدا نيران تأنيب ضميره ! ".
الحقيقة أن ظلم بلغ مداه، في تلك الفترة، بمعالجة (الثوريون) لقضية المعارضة الليبية. ولكن الذين قاموا بتلك الجرائم اسماهم النظام بالثوريين، ولكنه شوه كثيرين كانوا مقتنعين بفكر القذافي، ولكنهم لم يكونوا لا قتله ولا لصوص.. بل لم اسمع أبدا أنهم ولغوا في الحرام، أو أنهم اساءوا، لأحد. كان لخليفة الجروشي أصدقاء من اللجان الثورية، منهم من دعاهم مرات إلى البنكينة، للمشاركة في وجبات (الحرايمي) وتعرفت عليهم هناك، واكتشفت أنهم بعيدين عما الصق بثوريِ اللجان الموغلين في العنف وجرائم القتل؛ منهم: سالم عبد الرحمن، وعلى اللافي الفيتوري وسعيد رشوان. كانوا مقتنعين بالنظام ولكن من دون أن يتلطخوا أبدا، عملوا بضمير، والحقيقة أنهم ساعدوا كثيرا في إيصال صوت الصيادين إلى قيادة النظام و اعتقد أنهم قاموا بدور كبير في استحداث وزارة للثروة البحرية، ناهيك أن احدهم أخبرني، وأنا أعرف أنه لا يكذب أن مقالة كتبتها مبرزا حالة المدرسين، ولصوص المال في ذلك الوقت وصلت إلى صاحب القرار! وهي قصة عنوانها :(الخياشيم) من مجموعتي القصصية (رد قلمي) تقول:
" عَقدَ الرجل القصير كفيه خلف ظهره، وانحنى يتفحص، من غلف عدستيه السميكتين، الأسماك الملونة، المبلولة والمرصوصة فوق الرخامة. أما رفيقه فقد مال برأسه الضخم يمنا، وتغضن وجهه مشمئزا، عندما رفع بمفتاح سيارته الطويل خيشوم سمكة فضية كبيرة وقال :
وعندما فك الرجل الضخم، كثيف الشعر، حلقة المطاط التي كانت تلف رزمة العشرات، وعد منها أوراقا لينقدها للبائع. كان رفيقه ما زال عاقدا كفيه خلف ظهره. ولكنه لم يعد مائلا نحو الرخامة. رفع رأسه الصغير ونظر إلى أعلى .. نحو الرجل الكثيف الشعر وقال له :
(2)
- " كنا في فصل دراسي واحد، كان (دلو) .. ( كلوط) ! " صمت مسعود الكليب ، ثم واصلا : " لعله الآن مدير أو حاجه كبيه أخرى " صمت برهة ثم استطرد متحسرا : "حظوظ !" .
وقف رجل آخر رفيع كمسمار، سأل البائع :
وزن البائع الكيلو واعطاه للرجل المسمار، من دون أن يسأله إن كان يرغب في تنظيفه!. اخذ كيس السردين والتفت عائد نحو موقف السيارات. عندما شاهد مسعود ابتسم به واتجه نحونا، وصافحنا، وهو يسأل مسعود عن حاله وأحواله ثم ودعنا وانصرف. التفت زغيريتا نحو مسعود وسأله :
تعليقات