Atwasat

خذ بيدي..

محمد عقيلة العمامي الإثنين 19 مارس 2018, 11:58 صباحا
محمد عقيلة العمامي

أنا أراقبك، وأنت تراقبني.أنت سمعتَ عني، وأنا سمعتُ عنك. أصبحت تحبني وبت أحبك. فدعني أقول لك أنه ليس بالضرورة أن يكون الإبن نسخة أبيه، أو بتوضيح أكثر صناعة أبيه.
لا أذكر أن سي عقيلة كان منتظما في صلواته، بل في الواقع لم أره كذلك إلاّ بعد أن تقاعد وأصبح مؤذن جامع سي محمد بشارع نبوس. ولكنه كان قوي الإيمان بالفطرة. من بعد أن تزوجتُ، وبناءً على إصراره أن أسكن منفصلا عن بيته، اتفقت معه، ذات يوم رمضاني أن يفطر معي في بيتي الجديد. واتفقنا أن أمر عليه قبيل المغرب في الجامع. وصلت قبل موعد الآذان بحوالي نصف ساعة، وأخبرته أنني أنتظره في السيارة، المركونة قريبا منه. ما كدت أصلها حتى سمعته قد رفع الآذان، فهب رفاقه المعتادين انتظار المغرب معه على مصطبة الجامع، مشرئبين نحوه، معترضين ومنبهين: "ما زال بدري يا سي عقيلة.." ولكنه لم يتوقف حتى أنهي مهمته وخرج إليهم وقال: "إنكم لا تنتظرون آذاني، وإنما آذان الإذاعة. أنا أتممت مهمتي، وذاهب مع ابني وأنتم لنتظروا آذانكم المعتاد".
ذات فجر، وصل الجامع. كانت هناك عراسة بالقرب من الجامع، وكان من بينهم صالح، وهو شخصية يعرفها سكان المنطقة. والفجر هو بداية نهاية العراسة؛ فيشرع أحدهم، مثلا، في أغنية، ولكنه يتوقف لأن رفاقه لم يهتموا بها، لأن أغلبهم يكونون قد فقدوا أبعادهم، وفقدت (الدربوكة) إيقاعها، وتقطعت أنغام ألارمونكا. قال لي صالح : "سمعنا نقرا على ميكرفون الجامع، ثم انطلق الآذان، إلى أن اختتمه بأن الصلاة خير من النوم، صمت عقيلة يترنم قليلا ثم يترنم بأغنية شعبية كانت معروفة في ذلك الوقت، مضيفا إليها أسمي: "وين الجماعة يا صلوحة.. ساعه بساعه يا صلوحه..". قال فخرجنا إليه : "يا سي عقيلة الميكرفون مفتوح.." وسعل صالح وهو يضحك ثم استطرد، أجابنا: "وما الخطأ لو ابتدأت (شوالات) العظام البالية يومها بغناوه؟".
هكذا كان جدك. مؤمنا حقيقيا، ومسلم السلوك، والأخلاق والمعاملة، أما صلواته، فهي مجرد توجه إلى الله بدعاء من بعد قراءة آيات محددة، يختمها قائلا: "اللهم اجعلها خفيفة ظريفة كيف النار في الليفة يومين في الفراش والثالث في النعش" واستجاب له الله، وحقق له طلبه.
يوم تخرجي، قال له سي عوض شمام: "عقوله مبروك نجاح محمد.. حفله ما يخصك منها شيء" فأجابه: "إن شاء الله بعد ما يأخذ الشهادة الكبيرة!". لم يكن يعلم أن مباركة سي عوض كانت عن تخرجي في الجامعة وكانت حينها الشهادة الكبيرة. وكان يراقبني، وكنت أراقبه، وكان يسمع عني وكنت أسمع منه.. وكان مثلك صاحبي جدا.
ورأيتك عندما اتجهت إلى المسجد، من دون أن آخذك إليه، لأنني لم أذهب إليه في الأساس. فلقد وجدتني الثورة الأخلاقية، التي انفجرت في الستينيات في بريطانيا، خامة جاهزة، إنها الثورة التي أسماها علماء الاجتماع في الستينيات ثورة (التنانير) القصيرة، التي انتشرت من بعد الشيوعية، فنتجت عنها ثقافة "اللامنتمي" التي خرج بها (كولن ويلسن) وانتشرت الأفكار الشبابية، ممن تسموا بأبناء الله، واشتهر (كات ستيفنس). وإنني انتقيته من بين عدد كبير من مطربي تلك الحقبة، بسبب عمق وصدق تحوله إلى إيمان حقيقي بدين الإسلام. واستمر كذلك حتى الآن. لقد ابتعد شباب بريطانيا المحافظ عن الكنيسة تماما وانقسموا إلى مذاهب وأفكار كثيرة لدرجة يصعب حصرها.
وابتعدت مثل الكثيرين من أبناء جيلي، لم ينفع معي لا نصح من الأصدقاء، ولا من بعض أساتذتي، واندفعت كإعصارنحو كل ماهو ملموس، مادي. أما غير ذلك كان عندي مجرد خيال.
لعلك، يا زكريا، سمعت عبارة يتداولها الناس تقول: "ياجماعه الله عرفوه بالعقل ..." وهي عبارة بليغة وحقيقية ومهمة للغاية، فالعقل هو ما نحتاجه ليعيدنا إلى حظيرة الإيمان، إلى التناغم النفسي والاستكانة في رعاية الله.
العقل نبهني إلى أنني ضال، والبحر ومخلوقاته وجبروته وخيره ونسائمه وعواصفه هو التي أيقظتني من سباتي وأعادتني من ضياعي. ومثلما قال العالم (أسحق نيوتن) عن ابتعادة عن الحق والعودة إليه: " أحسست وكأنني صبي يلعب على شاطيء البحر، ويخيل لي أن ما ألتقطه من أصداف هي الحياة، في حين أنها ممتدة أمامي في هذا البحر الذي لم يكتشف تماما حتى الآن.
عملي في البحر هو ما عاد بي إلى الله، فاستلفتُ من عمك على بالروين كتاب هداية الناشئين، وتعلمت منه الصلاة. ولم يطل الأمر حتى فتح ألله أمامي أبواب الإيمان الحقيقي، فوضع في طريقي علماء ماديين أعادهم العلم إلى خشية الله.
فهذا عالم أحياء لا أذكر اسمه، قال: "إن احتمال نشوء الحياة بالصدفة، كاحتمال إنتاج (قاموس) بسبب انفجار في مطبعة!" وقال اينشتاين: "من يعتبر أنه لا معني لحياته وحياة رفاقه، هو في الواقع غير أهل للحياة". وقال عالم الطبيعة (أرثر كومبتون): "نحن نعتمد على العلم للكشف عن الحقيقية، وعلى الدين للبحث عن طريقة مرضية للحياة". أماعالم الأحياء (ألبرت ماك وينشستر) فقال: "إن عمق قوة إيمانك بالله هو سبيلك الوحيد لإدراك الحقيقة بصورة أفضل". وقال عالم طبيعة الذرة: "ثمة قوة أعلى من الإنسان هي وحدها التي تستطيع أن تتحكم في قوى الطاقة الذرية". وكلما أبحرت في العلم كلما ازداد إيمانك بالله.
وأنا أراقبك الآن، وأتابعك، وأراك متحمسا للسياسة، لدرجة التنظير، وأنا أقولك لك: "إن السياسة فن الحواروتسخيره لتحقيق أهدافك، وإقناعك للآخر يكون، بالتأكيد، إجابيا إذا تخليت عن أسلوب الموعظة، وعن المباشرة بخطاب تأمر فيه خصمك أن يفعل، أو لا يفعل كذا. أنصت أكثر مما تتكلم، واجعل حجتك مقنعة، وانظر إلى الآخر بعيونه، وضع في رأسه هدفك، واعمل بهدوء على أن يكون القرار منه وليس منك".
وأنا أحبك، يا زكريا، وأراقبك وأريدك أن تراقبني، وتفهمني.. وتأخذ بيدي وتساعدني على عبور الشارع المزدحم بعربات الدفع الرباعي السوداء والمسرعة كالبرق.. فلقد "قلّ الشبّحُ عن عيوني..". وكل ما أريده، الآن، أن أصل الحديقة الرئيسية الكبيرة آمنا مؤمنا وقطعة واحدة ومن دون ثقوب. فكن بخير.