Atwasat

سوسيولوجية إهمال الجيش

نورالدين خليفة النمر الأحد 18 مارس 2018, 09:00 صباحا
نورالدين خليفة النمر

يتضمن علم الاجتماع فروعا منها العسكري Sociology Of Military والأساتذة المصريون الذين أرسوا منهج قسم الاجتماع بكلّية آداب بنغازي ستينيات القرن الـ 20 لم يطرحوا علم الاجتماع العسكري في البرنامج الدراسي، الذي لم يكن مطروحاً في الجامعات المصرية للدرس والبحث، بدليل أن أشهر المهتمين به ـ ولم نسمع بغيره ـ كتب فيه باللغة الفرنسية إضافة إلى دراسات لافتة أخرى كتابه «مصر مجتمع يبنيه العسكريون » د. أنور عبد الملك الذي ظل منفياً في باريس طوال حياته.في سوسيولوجيات الجيش العالمثالثي يتبوأ الجيش الليبي مكانته المفارقة، فكيانه مسبّق على الاستقلال 1951 ولكنه ليس المُحرّر الفعلي والمؤسس والحامي الأبدي لدولة الاستقلال كالجيش الجزائري.

كما أن الدولة الليبية الحديثة بنتها إرادة دولية منتصرة في الحرب فكانت نتاج محاصصة لتصفية تركة الاستعمار وفصائل الجيش السنوسي رغم تضحياتها البشرية الهائلة قامت بدور هامشي في التحرير الذي حُسب للقوات الغربية الحليفة التي حسمت المعركة مثلما قوات الناتو عام 2011 التي حسمت تحرّر ليبيا من الدكتاتورية. الفصائل السنوسية التي وصل تعدادها عام 1940 إلى 110،79 مقاتلا برُتب عسكرية متفاوتة إئتمرها خمسون زعيما من مختلف الانتماءات القبلية انتظموا في خمس كتائب قتالية. أُرجعت بعد الاستقلال بترتيب بريطاني مقصود إلى هويتها العشائرية، فتحوّلت إلى قوة بدوية لحماية القصر سميّت بقوات دفاع برقة وتأسست تحت إشراف الراعي البريطاني نواة جيش حديث صارت تديره بيروقراطية وطنية محترفة تأهلت في الأكاديميات المؤسسة بريطانياً كالأكاديمية الملكية العراقية، بل نستطيع القول أن الجيش العراقي كان الأكثر تأثيراً في الجيش الليبي بناءً وتنظيماً من حيث التدريب واستخدام المصطلحات وقواعد الانضباط بما يُعرف في العسكرية بالضبط والربط وكذلك التنظيم الإداري واعتماد التقاليد العسكرية. هذه العملية التأثيرية ترجع إلى عدة أسباب جوهرية: ـ تولي رئاسة أركان الجيش الليبي الوليد ضباط عراقيين 1954 ـ 1958 ، ـ تخرّج دفعات من ضباط الجيش الليبي من الكلية العسكرية الملكية العراقية، ـ تأسيس الكلية العسكرية الملكية الليبية 1957على النمط العراقي أمراء ومدرسين من الضباط العراقيين، ـ أفضلية الجيش العراقي الذي كان يُعد وقتها الجيش العربي المميّز تدريبا وتنظيماً وانضباطاً وهي الميّزات التي أورثها للجيش الليبي الوطني.

مسار الجيش استمر بوتيرة متنامية إلى تاريخ وقوع الانقلاب العسكري 1969 الذي رمى الجيش تأهيلاً وتسليحا في أحضان مؤسسة البلدان الاشتراكية يوغسلافيا والمنظومة السوفيتية. كما أن قصة الجيش الليبي غير قصة الجيش المصري المختلفة عنها بالكامل كجيش قامت على كاهله نهضة مصر الحديثة، المؤرخة بتولي زمام الحكم الأسرة العلوية 1805 ـ1952 لمؤسسها الانكشاري الألباني محمد علي أو قام ضباطه بتغيير سياسي ضمن لهم مشروعية بناء المجتمع والدولة فيما سُمّي بثورة 26 يوليو من عام 1952إلى اليوم. ولانعدام الأحزاب في ليبيا الحديثة 1952 ـ 2011 فالجيش الليبي ليس هو الذي اخترقته الأدلجة ممثلة في الحزب الواحد والقائد في بلدان حزب البعث كالعراق وسوريا، كما أنه ليس بالمؤسسة البيروقراطية التي خضعت لحدودها التى رسمها لها السياسي البرجماطي كما جرى الحال في تونس، وأيضاً ليس بالجيش المخترق بالمحاصصة الطائفية كما هو الحال في لبنان والقبائلية كما هو حال اليمن دائماً حتى في شقّه الجنوبي الذي هيمنت عليه لسنوات الماركسية اللينينة!.لم تكن أهمية الفرع العلمي: "سوسيولوجيا الجيش" واردة في أذهان المسؤولين على كُلية الآداب في بنغازي، كون الجيش في عهد الملكية الليبية كان مهمّشا ومهملاً وهو

ما كان واحدة من ذرائع ضباطه الريفيين صغار الرُتب للإطاحة بالملكية الشائخة في 1 سبتمبر 1969 وبعد الانقلاب لم يكن الجيش الليبي أسوة بقدوته الجيش المصري محل دراسة وتفكير فيه وقد صار حاكما بل محور تعبويات الدولة بعسكرة المجتمع. وبعد أن أنجز ـ بتكلفة بشرية ومادية باهظة ـ المهمة النظرية للشعب المسلح تم الزج به في كارثة حرب تشاد التي قضت عليه، وإعلان ذلك تمّ بالتشهير به في صحيفة الزحف الأخضر التابعة للجان الثورية بمقالة غير مذيلة باسم، عنوانها "الجيش .. حشيش وطيش" ألبست العقيدة العسكرية بالسفاهة ومتضمناتها العسكر سوسية: النزق، والرعونة، والعربدة فكانت رصاصة الرحمة.

الأمر الذي استدعى الصورة المثبتة في المخيال الموروث لوصم الجيش العالمثالثي في صورته الأفريقية اليوم بالسفاهة فيما تُبرزه في الثقافة الشعبية الليبية لازمة وصف التعيّيبْ اللهجي الليبي "العسكرسوسة" وهم الزُعْر من مَردة الجُنْد المطبوعين بالزعَارة أي شراسة الخُلق، وصفاقة الطَبْع بالتعدّي على المشروعيات واستباحة الأرزاق والحُرمات .ثورة 17 فبراير 2011 أثبتث للعالم بما لايدعو إلى الشك اختفاء الصورة الموهومة للجيش الليبي، الأسطورة التي أنفقت فيها أموال النفط الطائلة في العشرية السبعينية ونصف الثمانينية من القرن الـ 20 وأن نظرية الشعب المُسلّح قضت قضاءً مبرماً على مؤسسة الجيش الليبي التي بُنيت بعرق وجهد دولة الاستقلال 1952 ـ 1969 بأن كرّست استبدال الجيش بالكتائب، ومهدّت مع إعلان التحرير من الدكتاتورية لإعادة برمجة الكتائب في صورة الميليشيات بتنوعاتها التي أفرزت قليلها تضحية الحرب والمواجهة التي حسمها تدخل قوات الناتو، وكثيرها اصطنعته غنيمة الحرب وإفساداتها.ينبغي علينا، ونحن نؤرخ إذ نكتب، في ظاهرة المجتمعيات الليبية، ألا ننزع فضيلة انتصار ثورة 17 فبراير الذي ساهم فيه من أطلق عليهم تجاوزاً رجال الجيش جنوداً وضباط بالقوات المسلحة الليبية بنصيب، وأعني المكوّنات الأولى العفوية وغير المؤدلجة عقائديا إسلاماوياً وجهويا وقبائليا حرابياً فيما بعد. تلك الطفرة الليبية المباركة التي أعطت للثورة الليبية خصوصيتها وزخمها ونكهتها وهو ماكتبنا فيه وماسنكتب فيه دائما متوخين الموضوعية والإنصاف.