Atwasat

الدستور الليبي المنتظر والمقاطعون والمبالغة في الاعتراض

أجدابيا - بوابة الوسط: صلاح ناصف الخميس 05 مايو 2016, 10:32 مساء
أجدابيا - بوابة الوسط: صلاح ناصف

إن مسودة الدستور الأخيرة تعد متزنة وتحقق متطلبات الاستقرار لليبيا الجديدة ومدخلاً حقيقيًا لبناء الثقة المفقودة بين الليبيين.
قبل تفنيد نقاط الاعتراض من قبل المقاطعين، علينا توضيح بعض الأمور والأسباب التي أدت إلى وضع مواد الدستور بصورتها الحالية المتمثلة بالمسودة الأخيرة.

إن النخبة من المنطقة الشرقية (برقة) والمنطقة الجنوبية (فزان) يدركون تمامًا وبالأرقام ما أفرزته المركزية السابقة، والتي تجاوزت الحدود المنطقية في تمركز أكثر من 90% من المؤسسات العامة في منطقة واحدة بحجة العاصمة أو الأغلبية من السكان.

فليبيا دولة واسعة وبها ثلاثة تكتلات سكانية متفاوتة العدد، وموزعة على رقع جغرافية متفاوتة في المساحات وتبعد بينها مسافات طويلة. فهذا الواقع الديمغرافي والجغرافي يتعارض طبيعيًا مع المركزية.

لا أحد من المنطقة الشرقية أو الجنوبية يريد حرمان إخوتنا بالغرب الليبي من حقوقهم في الثروة والتنمية، وكل ما نريده هو أن يكون التوزيع متوازنًا لخدمة الجميع حتى يعم الاستقرار ويزاح الغبن.

للتوضيح فإن نسب التوزيع السكاني للمناطق الثلاثة حسب تعداد 2006 هي (طرابلس 63.5%، برقة 28.7% وفزان 7.8%) وبعد الحصر المبدئي للمؤسسات العامة الاقتصادية والنوعية في ليبيا وعددها 363 مؤسسة (المؤسسات, الهيئات, المصالح، المراكز، الأجهزة, الشركات العامة والمشتركة)، وجد أن نسبة 92% منها في طرابلس وضواحيها، 7% بالمنطقة الشرقية، 1% بالمنطقة الجنوبية. علمًا بأن من مميزات توطين المؤسسات العامة في أي منطقة هي إتاحة فرص عمل لفئات مختلفة من المجتمع وفرص تأهيل كوادر (تكنوقراط)، وتخلق مناشط اقتصادية مباشرة وغير مباشرة وتحقق تنمية مكانية، بالإضافة إلى المشاركة في تسيير مؤسسات الدولة المركزية.

ففي دولة واسعة مثل ليبيا، يجب تقريب المؤسسات إلى المواطنين بالمناطق البعيدة عن العاصمة؛ وذلك بتوطين نسبة واقعية منها في المدن الكبيرة بالمناطق حتى لا يضطر جزء كبير من المواطنين إلى تغيير أماكن إقاماتهم والانتقال إلى العاصمة التي تقع بأحد الأطراف وتبعد 1000 كلم عن الكتل السكانية الأخرى من أجل الحصول على وظيفة مناسبة.

فدول كثيرة في العالم توزع مؤسساتها المركزية في أكثر من مدينة، كألمانيا لها مؤسسات مركزية في برلين وفرانكفورت وميونيخ، وفي إيطاليا مدن روما وميلانو وجنواه، في البرازيل مدن برازيليا وساو باولو وريو دجنيرو... إلخ.

فلا أحد من المنطقة الشرقية أو الجنوبية يريد حرمان إخوتنا بالغرب الليبي من حقوقهم في الثروة والتنمية، وكل ما نريده هو أن يكون التوزيع متوازنًا لخدمة الجميع حتى يعم الاستقرار ويزاح الغبن.

نعلم أن المواطنين البسطاء بالغرب الليبي لا دخل لهم في هذه السياسات المركزية, ولكن هناك جزءًا من النخبة يقتصر ليبيا في منطقة واحدة بحجة العاصمة وعدد السكان، ويتهمون كل من يطالب بحقوقه الوطنية من المناطق بالجهوية والانفصالية.

فليبيا ليست منطقة واحدة تحتكر كل المؤسسات السيادية والاقتصادية، فهناك أيضًا ليبيا أخرى قد قدمت التضحيات من أجل تحرير الوطن سواء تاريخيًا أو حديثًا حتى لا تكاد تجد عائلة واحدة دون شهيد أو مفقود، نعم هناك ليبيا أخرى أسهمت في توحيد ليبيا وفي تأسيس الدولة الليبية الحديثة، وأيضًا تسببت في إزاحة النظام الشمولي السابق وتحتضن الجزء الأكبر من الثروة التي يقتات منها الشعب منذ أكثر من خمسين عامًا. فمن المعيب اقتصار ليبيا في بقعة واحدة.

فأعضاء هيئة الدستور المقاطعون يركزون في حديثهم على النقاط الآتية، ويفسرون بعض هذه المبادئ الدستورية دون النظر في الخصوصية الليبية وهذه المبادئ هي:

1- مبدأ المواطنة.
2- المساواة فيما بين المواطنين جميعًا شرقًا وغربًا وجنوبًا.
3- العاصمة والمؤسسات السيادية.
4- اللامركزية المتمثلة في المحافظات والبلديات بسلطات موسعة.
5- الابتعاد عن المحاصصة والجهوية.
6- انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب دون المعيار الجغرافي.

أولاً) مبدأ المواطنة: إن مبدأ المواطنة مضمون في بنود الدستور، فلا تمييز بين المواطنين في الحقوق الفردية والحريات وفق أحكام هذا الدستور.

ثانيًا) المساواة بين المواطنين شرقًا وغربًا وجنوبًا: فهذا تحقق في أهم جسم تشريعي، وهو مجلس النواب باعتماد المعيار السكاني، فهو الجسم الذي يقر القوانين، يراقب ويستجوب الحكومة التنفيذية.

أما الغرفة التشريعية الثانية وهو مجلس الشيوخ المتكون من عدد متساوٍ من المناطق الجغرافية الثلاثة، فقد حدد لهذا الجسم صلاحيات محدودة، وهي مراجعة بعض القوانين والتصديق على بعض الوظائف، وهي اختصاصات في الأغلب لمنع ديكتاتورية الأغلبية نتيجة للتراكمات السابقة.

ثالثًا) العاصمة والمؤسسات السيادية: لقد حددت المسودة بأن طرابلس هي عاصمة ليبيا ومقر للسلطة التنفيذية، الحكومة بكامل وزاراتها. ونظرًا لخصوصية ليبيا التاريخية والجغرافية لقد حددت المسودة مقر السلطة التشريعية ببنغازي ومقر المحكمة الدستورية بسبها.
وهذا ليس ابتكارًا أن يتم توطين جزء من الأجسام السيادية للدولة بمدن مركزية غير العاصمة.

ففي جنوب أفريقيا مقر الحكومة في العاصمة بريتوريا والبرلمان في مدينة كيب تاون والمحكمة الدستورية في مدينة جوهانسبرج، وكذلك المفوضية الأوروبية (الحكومة) في بروكسل والبرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورغ، وهي مدينة صغيرة في شرق فرنسا بالتالي يجب علينا إعادة التفكير ومراجعة المعايير والسياسات التي تدار بها الدولة وتصحيحها من أجل الصالح العام.

هذا بالإضافة إلى التأثير المعنوي الإيجابي على المواطنين بوجود أحد الأجسام السيادية بمناطقهم.

نطالب الأخوة المقاطعين أن يراعوا مخاوف الآخرين ويراجعوا مواقفهم بتغليب مصلحة الوطن ككل واستقراره ويبعدوا فكرة المؤامرة.

رابعًا) اللامركزية المتمثلة في المحافظات والبلديات: فهي ضرورية في دولة واسعة كليبيا، ولكن اللامركزية الإدارية والمالية فقط لا تكفي، فالمواطنون في المناطق لا يريدون فقط توفير الخدمات وصيانة مرافق مدنهم بأنفسهم، بل من حقهم أيضًا المشاركة في القرار وفي تسيير مؤسسات الدولة المركزية، ولا يكون ذلك ممكنًا إلا بإعادة توزيع المؤسسات العامة الاقتصادية والنوعية في المدن الكبيرة بالمناطق وبنسب واقعية، لما لهذا التوطين من فوائد كثيرة منها فرص العمل والتأهيل والتنمية المكانية.

فمثلاً كان لصندوق الإنماء إبان النظام السابق خطة تنموية تقدر بـ62 مليار دينار لغرض استثمارها في مشاريع تنموية بالداخل، وكان الصندوق الذي مقره طرابلس وكوادره أيضًا من طرابلس قد خطط لإنشاء كل مشاريعه بطرابلس والمناطق القريبة منها ابتداءً من زوارة إلى مصراتة، وكان نصيب المناطق الأخرى في ليبيا فندق واحد 5 نجوم بمدينة بنغازي تبلغ قيمته 215 مليون دينار فقط، أي نسبة 99.65% لمنطقة طرابلس وضواحيها مقابل 0.35% للمناطق الأخرى، وهذا يعد تهميشًا ليس له أي مبرر منطقي أو علمي. وهذا نتيجة تمركز مؤسسات الدولة في منطقة واحدة، وكذلك كوادرها من نفس المنطقة. علمًا بأن هذه المعلومات كانت معروضة بموقع الصندوق حتى العام 2013. فإننا لا نستخسر أي تنمية لمدننا بالغرب الليبي، ولكن المعيب ألا نعمم ولا نوزع هذه التنمية على المناطق.

لقد فعلوا ذلك ليبيون متعلمون (تكنوقراط) من المنطقة الغربية وبكامل قواهم العقلية، فكيف تنتظرون من سكان برقة وفزان أن يعلقوا مصير أبنائهم تحت رحمة هذه العقلية ومن دون آليات ضامنة بالدستور تمنع تكرار الأخطاء، فهذا مثال واحد من العشرات التي لا تسع المقالة لذكرها. فمن هم الجهويون؟ على الرغم من أننا لا نتهم جميع الأخوة بالغرب الليبي.

خامسًا) الابتعاد عن المحاصصة والجهوية: كل ليبي وطني وعاقل لا يفضل المحاصصة والجهوية، ومن المفترض أن تكون الكفاءة وتكافؤ الفرص والجدوى الاقتصادية والتوزيع المتوازن هي المعايير المتبعة.

لكن عندما تركت الأمور من دون معايير وآليات إبان النظام السابق، وجدت قوائم البعثات الدراسية للخارج غير متزنة، ولم تراع أي معيار منطقي ووصلت نسبة الطلاب المرشحين من منطقة واحدة 95% على الرغم من تقديم الآلاف من طلاب المناطق الأخرى بلملفاتهم المستوفية للشروط.

هذا مثال واحد من الكثير. فأين موقع المحاصصة والجهوية؟ ومن استخدمها لصالحه؟ وهل ستعوض المناطق المتضررة؟

سادسًا) انتخاب الرئيس مباشرة من الشعب دون المعيار الجغرافي: هذا يعنى لن ينتخب رئيس لليبيا إلا من منطقة واحدة التي تمتلك العدد الأكبر من السكان بغض النظر عن الكفاءة أو البرامج المقدمة. للأسف فإن الجهوية لا تزال موجودة في ليبيا؛ ولذلك تم تضمين الموازنة بين معياري السكان والجغرافيا في انتخاب الرئيس.

فمواد الدساتير قابلة للتعديل عندما تزول الأسباب والمخاوف كما عدل دستور 1951 في العام 1963. بإمكان إعادة النظر في بعض بنود الدستور بعد عقود من الزمن عندما يصل الشعب الليبي إلى مستوى معين من التحضر الفكري، عندما يصوت ناخب من العجيلات لصالح مرشح من طبرق ويصوت ناخب من البيضاء لصالح مرشح من مرزق، كما انتخب الأميركيون بيل كلينتون من ولاية أركانسو الصغيرة ومن ثم أوباما لكفاءتهم وبرامجكم المقدمة، حينها لا يهم أين تكون العاصمة، طرابلس أو بنغازي أو سبها.

نطالب الأخوة المقاطعين أن يراعوا مخاوف الآخرين ويراجعوا مواقفهم بتغليب مصلحة الوطن ككل واستقراره ويبعدوا فكرة المؤامرة. فالشعب الليبي من أكثر شعوب المنطقة تجانسًا وتقاربًا اجتماعيًّا ولا وجود لخلافات عميقة بيننا إلا بعض المخاوف المشروعة والناتجة عن تراكمات أخطاء الماضي، فمثل هذه القضايا لا تحل بالوعود الشفوية أو بإبداء حسن النية بل بالآليات الضامنة، وهذا ما يبرر بعض مواد مسودة الدستور.

فلا تزيدوا من هوة عدم الثقة بتشبثكم بمواقفكم.