Atwasat

ثورة الدموع

سالم العوكلي الإثنين 10 أغسطس 2015, 01:21 مساء
سالم العوكلي

اليوم 25 فبراير 2011 كنا بمقر بيت درنة الثقافي نتابع جلسة مجلس الأمن بشأن أحداث ليبيا، وكنا حتى تلك اللحظة لا نعرف موقف السيد عبدالرحمن شلقم رئيس البعثة الليبية بالأمم المتحدة.

عبدالرحمن شلقم الذي لا أعرفه إلا من خلال أصدقائي المثقفين، والذين دائما يتحدثون عنه بحب، رغم المسافة الطويلة التي حالت بينهم بعد أن عملوا سويا في صحيفة الأسبوع الثقافي بداية السبعينيات، حيث ارتبط شلقم بالنظام، وغابوا هم في دهاليز السجون بعد توقف الصحيفة، لكنهم حافظوا على احترامهم له، وعلى موقفه حين خرج من المستشفى على عربة يكسوه الجبس، بعد أن تعرض لحادث، ليشهد في المحكمة لصالحهم، ورغم أنه منع من الدخول والإدلاء بشهادته إلا أن هذا الموقف لم ينسه أصدقاؤه، وظلت علاقتهم مستمرة بعد إطلاق سراحهم، وهم يدركون أنه مثقف وكاتب كبير تاه في دهاليز السلطة دون أن يتخلى عن مزاجه المرح الذي يربطه بالوطن وبالأصدقاء. لكل ذلك كنت أنتظر موقفه كاختبار حاسم لما عرفته عنه من أصدقائه الذين أثق بهم.

تحدث شلقم بارتباك رجل محسوب على النظام، وأعلن عن انحيازه إلى الليبيين، دون أن يتخلى عن لهجة التهذيب تجاه شخص عمل معه عقودا، وهو يردد "أخي معمر" دع الليبيين وشأنهم.

كانت الدموع تنحبس في عيوننا أثناء الكلمة التي بكى خلالها، وحين انتهى من كلمته أجهش الحاضرون ببكاء معلن، وكان من السهل أن نقول أن دموع شلقم ناتجة عن الحزن على الشباب الليبيين الذين يقتلون بدم بارد، وتعبير عن كثافة اللحظة التي اختلط فيها الحزن بالندم بيقظة الشاعر والكاتب في داخله، لكن دموعنا في تلك اللحظة التي شاركنا فيها الكثير من الليبيين كانت غامضة، ليست دموع حزن ولا فرح، ولا ندم وليست خليطا من كل ذلك.

كثيرا ما تسيل الدموع حين نكون على كثب من موقف إنساني مشحون بدراما تنبع من فكرة أن الخير في الإنسان أصيل، انبعاث الخير في لحظة نحس فيها أن الشر مطبق يسكب في داخلنا أملاً سريا مبللا بدموع فرح تنبع من إعادة ثقتنا في الكائن الإنساني، وفوق ذلك اكتشافك لشخص ظللت تحمل له احتراما رغم كل الالتباس الذي يحيط به، اكتشافك لمعدنه الأصيل الذي مهما تراكم عليه الغبار سيلمع من جديد عند أول خدش. وهذا ما حدث حين كشف شلقم عن معدنه، ورغم انخراطه في مؤسسات النظام مثلما فعل ملايين الليبيين إلا أن كنزه من الوطنية لم يمس، وشعريته المتقدة لم تنضب.

يوم 8 يونيو 2011 كنت والصديق أحمد الفيتوري بفندق تيبستي نتجاذب أطراف الحديث حتى ساعة متأخرة من الليل مع السيد عبدالرحمن شلقم في أول زيارة له لبنغازي بعد انتفاضة فبراير، حدثنا شلقم عن زمن الحيرة والارتباك الذي قضاه في أيام الانتفاضة الأولى، فمن السهل أن ينشق شخص عاش على هامش النظام، أو يلتحق بالثورة شخص معارض أو محايد أو نكرة، لكن انشقاق أشخاص مثل شلقم عملوا عقودا مع رأس النظام وربطتهم علاقات حميمة مع كل العائلة وجل من يتمترسون في الطرف الآخر، مثل هذا الانشقاق يشكل قراراً صعباً ومصيرياً، خصوصا أنه في تلك الفترة مازال لم يُعرف مصير هذه الثورة، ويصبح الخيار الصعب بين أن تنحاز لضغط العشرة أم للضمير، وهذا ما حسمه أخيرا، مدعوما في هذا القرار، كما أخبرنا، من زوجته الفاضلة التي حين استشارها، قالت له: لا شيء يضاهي قطرة دم لشاب سقط على جسر جليانة ببنغازي، وحين ذكرها بابنها محمد الموجود في طرابلس، قالت مثله مثل الشباب الذين يستشهدون يوميا.

كان حديثنا يتقطع بسبب سيل المواطنين المتدفق، رجالا ونساء وأطفالا، كلهم جاءوا لتحية شلقم، وهم مكتظون بتلك اللحظة الكثيفة قبل أربعة شهور، كانوا من مختلف الأعمار والشرائح، لكن ما يوحدهم هي الدموع التي تنهمر من عيونهم وهم يسلمون على شلقم الذي كان بدوره يقابلهم بعيون مبللة، وملأني سيل الدموع ذاك بحب إضافي لكل ما هو إنساني، لكل ما هو فطري، لكل ما هو عفوي قبل أن يتلوث بالسياسة وبالحسابات وبالمصالح الشخصية.

اكتظت انتفاضة الليبيين بشتى أنواع الدموع، دموع الخوف، والفرح، والأمل، والفقد، دموع أمهات الشهداء التي تلعثمت بها الزغاريد، ودموع الكهول وهم يقفون للنشيد الوطني الذي أعادهم للزمن الواعد.

الآن أيضا وبعد انتصار ثورة الليبيين وسقوط النظام مازالت الدموع تهطل، لكنها دموع غائمة ومرة وحارقة، دموع خوف وحزن كدموع الطفل التائه عن بيته في درب مظلم، دموع على ضحايا القتل دون سبب، على صراعات الانتهازيين على الثروة، على من يحرقون آبار النفط أو يحاصرونها(خبز الليبيين ومستقبلهم)، على من يحاولون تقسيم هذا الوطن الذي لا يقبل القسمة إلا على نفسه، دموع على مؤتمرهم الوطني الذي انتخبوه بحماس وفرح فقابل حبهم بإشعال حرب أهلية في كل ركن من هذا الوطن البيت، دموع على حكومتهم الكسيحة، وعلى برلمانهم الثاني الذي من الصعوبة أن يعقد اجتماعا في أشد الظروف خطورة والكثير من أعضائه يتسكعون بين فنادق الخمس نجوم، ويتقاضى الواحد منهم ما يعادل دخل 40 أسرة ليبية تعيش على المعاش الضماني، دموع على أبنائهم العائدين من المنفى يشكون سنوات الغربة، ودموع عليهم وبعضهم لا يرى في الوطن سوى غنيمة فاتته، أو بعضهم يعودون إلى الغربة سفراء متوجين، دموع على من يكفرون مجتمعا مسلما متدينا لم يستطع كل الغزاة الذين عبروا أرضه أن يغيروا شعرة من إيمانه ووجدانه الديني.

دموع على نصف شعب نازح عن وطنه أو عن بيته دون معين أو حاضن، دموع على المدارس المقفلة والمستشفيات الخالية من الكوادر والمعدات والأدوية، دموع على الأشقاء الذين يتقاتلون كل واحد في طرف، دموع على من يُقتلون على الهوية ومن يتعذبون في سجون خارج القانون والإنسانية، دموع حارة حارقة لا تحدق من خلالها العيون في أي أمل أو رجاء.

دموع تترقرق في عيون الليبيين وهم يرون ليبيا بازارا كبيراً تباع فيه أحلامهم بأبخس الأثمان. وأخيرا، دموع خاصة بي عندما قال محلل سياسي صومالي في إحدى القنوات: إننا نخاف على الصومال من السيناريو الليبي. اللعنة عليكم جميعا يا من تصدرتم المشهد بعد سقوط النظام، فهذا الشعب الصبور لا يستحق منكم كل هذا الألم.