Atwasat

ترحال: الإسلام في مواجهة العنف: ما أشبه اللّيلة بالبارحة

محمد الجويلي الإثنين 01 ديسمبر 2014, 01:05 مساء
محمد الجويلي

إنّ المتأمّل في التاريخ الإسلامي السياسي، لا بدّ من أن يصطدم بمرحلة التأسيس التي مرّت بها الدولة الإسلاميّة في بداياتها، ليس لمجرّد المعرفة التاريخيّة فحسب، وإنّما لأنّ الحركات السياسيّة المسمّاة إسلاميّة أو التي أطلقت على نفسها هذه الصفة على اختلاف مشاربها ظلّت تستعيد هذه المرحلة وتتّكئ عليها وتجيّش جمهور المسلمين، هذه السنوات أكثر من أيّ وقت مضى، في تاريخنا المعاصر لفرض مشروعها السياسي ورؤيتها للدولة والمجتمع، سواء بالعنف المسلّح أو حتّى عن طريق الانتخابات وصندوق الاقتراع، مستمدّة منها شرعيتها، ومُؤوِّلة لها حسب هواها لتدعيم وجودها في الواقع التاريخي، تعوزها في ذلك الرؤية النقديّة البنّاءة لهذه المرحلة مكتفية باجترار مقولات وكليشهات هي في حقيقة الأمر ليست من روح الإسلام في شيء، بل، أكثر من ذلك، هي من موروثات الانقلاب على الإسلام وعلى الرسالة المحمّديّة نفسها.

كانت هذه الدولة في مرحلة النبوّة تنشأ شيئا فشيئا مستمدّة قاعدتها الآيديولوجيّة من الوحي الذي عمل النبيّ عليه الصلاة والسلام على تعميم سيادته في وجه الرفض الذي لقيه من رموز المعارضة القبليّة ومن المتمسّكين بدياناتهم القديمة من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان.

وعلاوة على الوحي كانت هذه الدولة تستمدّ حيويّتها من شخصية الرسول المركزيّة وحضوره اليومي بين جمهور المسلمين ينهاهم ويرشدهم ويقودهم إلى المستقبل يرون فيه النموذج المثال الذي يحاكونه فيما يصدر عنه قولا وفعلا.

غير أنّ الوعي السياسي الإسلامي في هذه المرحلة كان وعيا حسّيّا بقدر ما ينيره القرآن الكريم وتعاليم نبيّه كانت تتحكّم فيه عوامل التجييش الوجداني والنشوة التي تصاحب كلّ الثورات المنتصرة في التاريخ. فالأولويّة قد أعطيت في هذه الفترة لتجسيد الجوهر الأخلاقي للدين الجديد بالتسامي عن الدنس الدنيوي.

ولذلك فإنّ التناقضات البشريّة والمصالح الدنيويّة قد انحسرت نسبيّا لدى الجماعة الإسلاميّة الناشئة لتنصهر في كلّية الدين الذي يرمي أوّلا إلى التعالي بالإنسان وتطهيره من رغباته الدنيويّة ومن توحّشه الموجود فيه بالجبلّة ومن جشعه ومن شهواته الأنانيّة التي جاء الإسلام لصقلها وتهذيبها.

كانت هذه الدولة في مرحلة النبوّة تنشأ مستمدّة قاعدتها الآيديولوجيّة من الوحي الذي عمل النبيّ على تعميم سيادته في وجه الرفض الذي لقيه من رموز المعارضة القبليّة

فكانت تبعا لذلك المسألة الروحيّة تسبق من الناحية الزمنيّة والأنطولوجيّة كلّ ممارسة فعليّة للسلطة، بحيث كان النبيّ عليه السلام يركّز بالأساس على هذا المستوى الروحي والوجودي الذي يهدف من خلاله إلى إعادة بناء إنسان جديد أنطولوجوياً أكثر من اهتمامه ببناء الدولة، وليس أدلّ على ذلك من عدم إعارته لخلافته أهمية وتعيين وريث له بعد وفاته وترك ذلك لاجتهاد المسلمين بعده، رغم أنّ أهمية مستقبل أمّته بعده لم يكن لتخفى عليه، وهذا ما يجمع عليه كلّ أهل السنة، ماعدا الشيعة التي تقول بوصيّته في غدير خم لعلي بن أبي طالب في الحديث المشهور المنسوب إليه وهو حديث اختلف أهل السنّة في درجة صحّته وضعفه مع إجماعهم على أنّه ليس وصيّة بخلافته وإنّما مجرّد تبجيل وتكريم له.

غير أنّه بانقضاء مرحلة النبوّة المؤسّسة بدأت العوامل الوجدانيّة المجيِّشة لعواطف أوائل المسلمين والمحتضنة لهم جميعا باختلاف مشاربهم وأهوائهم وانحداراتهم الاجتماعيّة والقبليّة والأسريّة والعرقيّة تنحسر شيئا فشيئا لصالح الواقع التاريخي في تناقضاته العميقة التي تتجاوز النيّات الطيّبة وتخيّلات الأفراد وأحلامهم- كما في كلّ الثورات في التاريخ بعد انقضاء الفرحة الأولى بالانتصار- هذه التناقضات التي سرعان ما طفت على السطح لينقسم المسلمون إلى فرق متصارعة حول الحكم.

إنّ تنصيب أبي بكر باعتباره قرشيّا من المهاجرين المكّيين واشتراط النسب القرشي في الخلافة وإقصاء أنصار الرسول أهل المدينة الذين احتضنوه في محنته ليس في الحقيقة إلّا عودة للعصبيّة القبليّة التي جاء الإسلام لدحرها. فإذا كان الدين الجديد لا يفرّق بين عربيّ وأعجميّ إلّا بالتقوى، فكيف سيفرّق حينئذ بين عربيّ وعربيّ: عربيّ مهاجر مع الرسول وعربيّ مناصر له في وقت الشدّة!

يذكر ابن خلدون في فصل الإمامة بمقدّمته ما حدث في معاهدة السقيفة واحتجاج الأنصار لمّا همّوا ببيعة سعد بن عبادة مخاطبين المهاجرين القرشيين «منّا أمير ومنكم أمير» ثمّ تراجعهم بعد ذلك عن هذا المطلب في ظروف يسكت عنها مؤرّخنا الكبير ولا يعيرها اهتماما رغم إقراره بأنّ القبول بالخلافة في قريش مردّه ليس بركتها وقدسيّتها وإنّما لعصبيتها القوية، علما أنّ الإسلام جاء لمحاربة العصبيّة القبليّة ومقاومتها والبناء على أنقاضها علاقة المساواة بين المسلمين جميعا على اختلاف أجناسهم وألوانهم، فما بالك بقبائلهم.

عاد الدنيوي إذن مع معاهدة السقيفة لينقلب على المقدّس تدريجيّا متّخذا أرقى أشكاله في العنف الدموي، مع منتصف خلافة عثمان بن عفان الثالثة، حين بدأ الحسم السياسي يتخذ من السيف وسيلة وحيدة لإقصاء المعارض والمختلف وإنْ كان قد بدأ يعمل عمله قبل ذلك مع قتل الخليفة عمر. تمسّك عثمان بالسلطة في مواجهة معارضيه الذين اتهموه بمحاباة بني أميّة الذين استأثروا بالحصّة الأكبر من ثروات بلاد الشام وأراضيها الخصبة وقال قولته الشهيرة «لا أخلع قميصا قمْصنِيه اللّه، ولا أخلع سرْبالا سربلِنيه اللّه» (انظر تقي الدين المقريزي، التنازع والتخاصم فيما بين بني أميّة وبني هاشم، مصر، دار المعارف ،1988ص.10).

أصبحت الاغتيالات السياسيّة والتصفيات الجسديّة سنّة متّبعة للتخلّص من الخصم والمنافس وكانت تتمّ على مرأى ومسمع الجميع

وكان ذلك إيذانا باندلاع عنف وحشي يتناقض مع مبادئ الإسلام السلمي بطبعه من تسميته ذاتها والتي سهر الرسول عليه السلام في حياته على رعايتها، نقلت أخباره المصادر الإسلاميّة الأولى [وليس الغربيّة الاستشراقيّة المعادية كما يذهب ظنّ البعض] لا يتورّع أصحابه باسم الإسلام على القتل والترويع وانتهاك فظيع لحرمة الجسد البشري يتناقض جذريّا مع مبادئ أخلاقيّة لم يطل العهد بعد على التبشير بها والعمل على إرسائها بديلا للقيم السائدة التي عرفها العرب في جاهليتهم [من معاني الجهل العنف].

يصف الجاحظ ما فعله قتلة عثمان به قائلاً «ومن خبطهم إيّاه بالسلاح، وبعج بطنه بالحراب وفري أوداجه بالمشاقص، وشدخ هامته بالعمد.... وضرب نسائه بحضرته وإقحام الرجال على حرمته.... مع وطئهم في أضلاعه بعد موته وإلقائه على المزبلة جسده مجرّدا بعد سحبه» ( رسالة في بني أميّة وكذلك. انظر رسالة النابتة في رسائل الجاحظ).

ومن ثمّ أصبحت الاغتيالات السياسيّة والتصفيات الجسديّة سنّة متّبعة للتخلّص من الخصم والمنافس وكانت تتمّ على مرأى ومسمع الجميع، وكما يشهد الجاحظ «وبحضرة جلّة المهاجرين والسلف المتقدّمين والأنصار التابعين (المصدر نفسه) ولم تعد الشورى إلّا مبدأ نظريّا لا يمتلك أي فاعليّة حقيقيّة ليترك العنف والفتن والحروب تحلّ محلّه «ثمّ مازالت الفتن متّصلة – يقول الجاحظ - والحروب مترادفة، كحرب الجمل، وكوقائع صفّين وكيوم النهروان، وقبل ذلك يوم الزابوقة.....إلى أن قُتل أشقاها عليّ بن أبي طالب رضوان اللّه عليه» (المصدر نفسه).

ما نشهده هذه السنوات من قتل وترويع باسم الإسلام يعيدنا إلى هذه الفترة التي تلت مباشرة عصر النبوّة وهي الفترة التي تأسّس فيها تاريخنا( الذي مازال يلقي بظلاله علينا اليوم) على العنف والإقصاء باعتباره انقلابًا واضحًا على سلميّة الإسلام ذاته وعلى القيم التي جاءت بها الرسالة المحمّدية.

ما أشبه اللّيلة بالبارحة، ولكن الغد يمكن أن يكون مختلفا بالطبع إذا ما توفّرت الإرادة ووقفت نخب الأمّة، لا سيما الإسلاميّة منها، لتنظر إلى وجهها في المرآة وتعيد قراءتها للمرحلة الأولى بتأنٍ حتّى تعلم أن عدوّ الإسلام الأوّل هو خلطه بالسياسة وتلويثه بالدنس الدنيويّ وأنّ مستقبل ديننا وإشعاعه بين الأمم مرتهن بإرادتنا في تخليصه من براثن السياسة وجعله مشتركا بيننا مهما تباينت مصالحنا الدنيويّة تماما كلغة القرآن العربيّة، لغتنا جميعا لا أحد يمكن أن يدّعي أنّه يمتلكها وحده.