Atwasat

الحكومات الليبية 1949- 1969 (18)

سالم الكبتي الأربعاء 06 سبتمبر 2023, 04:42 مساء
سالم الكبتي

(يا نا نحلنا اليوم شدوا ميرا ..... وثنوا على جبحه لموا قيرا)
عمران المصري

وصل الصراع إلى حافته بين حكومة الساقزلي وجمعية عمر المختار. لم يعد ثمة مناص. المطرقة والسندان. وفعل الحداد بينهما فعله. نقطة الختام بالصدام المباشر والعنيف. انهارت العلاقة ووصلت الأمور نهايتها بحل الجمعية وسجن رموزها.

الطريق الذي أدى إلى ذلك تمثل في أن صحيفة الوطن لم تهدأ كعادتها المعروفة في نقد الحال بشدة والاعتراض على الدوام ومواجهة نشاطات الحكومة، فإضافة إلى متابعتها لخطوات الأمم المتحدة في ليبيا ورفضها لشكل الدولة الاتحادي القادم ومناقشة قضايا نشوء الدولة الليبية وتوجيه الضربات ما بين السطور للوجود الإداري البريطاني.. إضافة إلى ذلك وغيره من مستجدات خلال الواقع الليبي والدولي، لم تقصر في جهودها في التصدي لمهام الحكومة ومشروعاتها.. تناولت ما يتعلق بما يتصل بالمسؤولين البريطانيين في حكومة برقة ومساعدة النقطة الرابعة الأمريكية المنتظرة.. قالت عن ذلك الكثير تحت عنوان مثير في إحدى افتتاحيات الصحيفة: (فتش عن الانجليز في النقطة الرابعة.. تمخضت أمريكا فولدت فأرا) ومسائل الأملاك الإيطالية والتعويضات الحربية، ودخلت في نقاشات حول هذه الأمور مع وزارة الداخلية التي كانت ترد بما يلزم من إيضاحات وتفسيرات، ثم أشارت إلى العجز في موضوع تغيير العملة وتفاصيل الميزانية. لم يتوقف سيل المقالات والافتتاحيات الغاضبة تجاه الإدارة والحكومة معا.

شملت تلك الهجومات والحرب بالكلمات فوق صدر الصحيفة الأوضاع الاقتصادية وارتباكات الجهاز الإداري وتضخم الموظفين والافتقار إلى أية نهضة زراعية أو حركة صناعية.

كانت الحكومة تعالج الجروح وفقا للإمكانيات لتكتشف جروحا جديدة تصعب معالجتها مع سيل المقالات ونشاط الجمعية المكثف دون أن يتوقف لحظة واحدة في إبراز مواطن العيوب والنقص والتصرفات التي تبدو من الحكومة وتعتبرها الجمعية من خلال صحيفتها فرصة للتشهير أو الكشف عنها ومعارضتها بصوت قوي وحاد في ذات الوقت.

وكان لابد من أن يصل هذا التراشق إلى نقطة الصدام، وربما كانت الحكومة تنتظرها بفارغ الصبر وأتاحت لها الفرصة المنتظرة ذلك بسهولة ويسر لتحصل الضربة القاضية في مقتل في كبد الجمعية. تطور الصدام من سبب بسيط كان بالإمكان معالجته ومعرفة ظروفه وتفاصيله بالاتصال بمن يهمه الأمر في الحكومة من مسؤولين أو موظفين حتى يتبين للجمعية الخيط الأبيض من الخيط الأسود قبل حلول الفجر!

في اليوم الثامن من يوليو 1951 قامت الجمعية بإحياء الذكرى الأولى لوفاة أحد أعضائها من الشباب الناشطين وهو علي محمد بوقعيقيص. كان في مهمة خاصة بالجمعية في طريقه إلى درنة ومعه محمد الصابري والحاج علي بالروين اللذين نجيا من حادث السيارة.

توجهت مجموعة كبيرة من الجمعية إلى المقبرة. أثناء دخولها اكتشفت وجود رائحة كريهة قوية تنتشر في الأجواء وتنبعث من داخل المقبرة. وحين الاستفسار من أحد حفاري القبور عن تلك الرائحة ومصدرها أجابهم بالقول بأن هناك جثة لمواطن مجهول الهوية لم يعرف عنه أي شيء ولم يأت أحد من أقاربه أو معارفه، الأمر الذي دعا النيابة العامة إلى إصدار أمر يتعلق بعدم دفنه إلى إشعار آخر ينتهي بمعرفة هويته وتفاصيل أسباب الوفاة. كانت الجثة قد مضى على وجودها في حجرة بمدخل المقبرة ثلاثة أيام كانت كفيلة بالمزيد من الرائحة الكريهة وتطاير الأسئلة في الهواء. اعتبرت الجموع الحاضرة أن هذا يمثل مأساة إنسانية لم تحصل من قبل وأثارت لديها ألاما شديدة على هذا المصير المحزن الذي قد يتكرر مرة أخرى.

التقط أعضاء الجمعية ومناصروها هذا الحدث ليؤجج في الصدور الفرصة الغاضبة ضد الحكومة من رأسها إلى أسفلها. انتهى حفل التأبين ومضوا بكاملهم إلى شارع محمد موسى في المدينة حيث يقطن رئيس الحكومة لينقلوا ذلك إليه أو لمقابلته وإبلاغه على ما يبدو بما حدث.

والواقع أن الغضب فاق مداه. المظاهرة أمام البيت لهذا السبب الإنساني طالت ومعها تطايرت الهتافات والعبارات والصيحات. وحدثت الملاسنات وزادت حين أمر الرئيس حراسه بفض وتفريق المظاهرة والجموع من أمام بيته. الحادث في المقبرة ثم بسير المظاهرة حتى بيت رئيس الحكومة شكل صورة تحتاج إلى وضعها في إطار يتحدد في: هل ما حدث مدبر من جهة ما؟ هل قيادة الجمعية كانت وراءه؟ هل ثمة أطراف من بعيد أرادت أن تزيد من اتساع الشرخ وصولا إلى إغلاق الجمعية؟ وهل كان بالإمكان التصرف بحكمة بدل الحماس عند شباب الجمعية وبتريث الحكومة من المضي نحو المزيد من المواجهة العنيفة بحل الجمعية وإغلاقها؟

في كل الأحوال تظل الإجابات متاحة وتفسر ما حدث وفقا لمعطيات واختلافات كثيرة، لكن المحظور وقع.. ففي اليوم التالي تجددت المظاهرات الحاشدة تحديا لرئيس الحكومة وتصرفه أمام مظاهرة الأمس عند أعتاب بيته ومسامع أسرته، وهو أمر كان من المفترض أن لا يقع حتى من الناحية الاجتماعية والتقاليد التي تآلف عليها الجميع. هنا في اليوم التالي اضطرت قوات البوليس إلى مهاجمة مقر الجمعية في بداية شارع عمر المختار والاعتداء على موجوداتها وما تحتويه مكتبتها. بعض شهود العيان أشاروا إلى أن تلك القوة كانت تدمر أثاث الجمعية وترمي بمجموعات الكتب من نوافذ المقر إلى الشارع. ثم بعد منتصف الليل اقتيد إلى السجن كل من السادة مصطفى بن عامر وأحمد رفيق المهدوي وطاهر المجريسي وعلي زواوه.

أعلنت حالة الطوارئ من قبل الحكومة ومنع التجول وأعلن حل الجمعية والنادي الأهلي وتعطيل صحيفة الوطن ومصادرة سجلاتها وملفاتها، ثم عقدت محكمة لمن تم القبض عليه. كان القاضي الإنجليزي واسع الصدر كما تشيد المصادر في الاستماع إلى مرافعات المتهمين والمحامين وأصدر بعدها حكمه بسنتي سجن مع إيقاف التنفيذ على بشير المغيربي وغرامة مالية على محمود مخلوف وبراءة محمد الصابري وبالغرامة المالية أو البراءة على بقية الشباب وقد دفعت الغرامة المطلوبة وخرج الجميع من السجن.

غير أن الحال تبدل حين سارعت الحكومة بعزل القاضي وتعيين قاض إنجليزي أخر وقدم إلى ساحة المحكمة مصطفى بن عامر وعلي زواوه وأحمد رفيق المهدوي وطاهر المجريسي. كان الحكم هنا ثلاث سنوات بالسجن على بن عامر وسنتين على زواوه وسنة على المجريسي وبراءة أحمد رفيق المهدوي. وتم تنفيذ الأحكام فيما حددت إقامة مخلوف والمغيربي في منزليهما وفي آخر 1950 أبعد محمود مخلوف وبشير المغيربي وعبد الوهاب الموهوب إلى واحة مرادة جنوب إجدابيا لعدة أشهر بتهمة الاعتداء على قوس من أقواس الزينة الذي يحمل صورا وعبارات مؤيدة للملك إدريس في ذكرى الاستقلال.

سبب ذلك كله المزيد من الاحتقان ضد الحكومة وتصرفاتها وتسرعها العنيف في معالجة ما حدث وتناولت صحف التاج والدفاع والاستقلال الأمر باستهجانه ونقده وتعاطفا مع الجمعية المنحلة واعتبار هذه المعالجة سابقة خطيرة تؤدي إلى المزيد من المشاكل والأزمات.
عمال مطبعة المحيشي، حيث تطبع صحيفة الوطن، لم يكتفوا بالتفرج. خرجوا بدورهم في مظاهرات رافعين عبرها هتافات تدعو إلى وحدة ليبيا وبحياة الملك وسقوط الحكومة ولم تواجههم أية قوة من البوليس. دامت مظاهرتهم حوالي ساعتين في شوارع المدينة.

كانت المظاهرة آخر صوت للجمعية الذي توقف نهائيا ليعود بعد أعوام بصور مستترة مغايرة. كانت المظاهرة بتنظيم من الأستاذ محمد الفلاح والحاج علي بالروين وإبراهيم حماد وعمران المصري، وهو شاعر سينظم قصيدة طويلة حول الإغلاق والاعتقال، ومحمد الفيتوري (الشيخ) وسعد المريمي.

حفل تأبين في المقبرة القديمة وجثة مجهولة هناك ومظاهرات واعتقالات في عز صيف بنغازي والمنطقة التي ستشهد بعد هذه الأيام أحداثا ساخنة وإن اختلفت عن شكلها في بنغازي .. اغتيال رياض الصلح رئيس وزراء لبنان في عمان ثم الملك عبد الله في المسجد الأقصى بالقدس.

الحفل والجثة كانت نهاية الصدام مع الحكومة التي سينتهي أجلها بإعلان الاستقلال في الشتاء القادم نهاية 1951.