Atwasat

عزف ليبي على مقام الهوية

جمعة بوكليب الأربعاء 12 يوليو 2023, 02:08 مساء
جمعة بوكليب

علاقتي بعلم الفيزياء قد لا تختلف كثيراً عن علاقتي بعلم الموسيقى، وفي مجملها تقتصر على ما درسته من مبادئ وقوانين أولية في مرحلة التعليم الإعدادي، وبداية التعليم الثانوي. من تلك المبادئ الأولية قانون يؤكد على أن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.

بسبب ما تعرضت له الهوية الليبية من قمع وتهميش خلال فترة الحكم العسكري السابق، نتيجة هوس توجهاته القومية، وما تسببت فيه مصائب وكوارث، انعكست سلباً على البلاد والعباد، عاد موضوع الهوية الليبية بقوة إلى الساحة الثقافية الليبية بعد انتفاضة فبراير 2011، وفقاً للقانون الفيزيائي، أي بنفس القوة التي كانت وراء تهميشه، وفي اتجاه مغاير.

خلال الأسبوع الأخير، من زيارتي لمدينة طرابلس، كنت محظوظاً بحضور حدثين ثقافيين مخصصين لمناقشة الهوية الليبية. عُقد الأول منهما في دار الفنون، وأقامته الدار الليبية لدراسات العود. وهي، كما تبين لي- جمعية تهتم بتجميع وتطوير وتوثيق التراث الموسيقي الليبي، وانبثقت خلال العامين الأخيرين.

أما الثاني، فكان محاضرة قيّمة ألقاها الكاتب المسرحي والروائي الصديق منصور بوشناف، في مقر حزب السلام والازدهار. الجدير بالإشارة والتنويه، أن الحزب المذكور، حسب علمي، يكاد يكون الحزب السياسي الوحيد الموجود فعلياً على أرض الواقع. إذ لم يصادفني وجود أي أثر لأي حزب سياسي آخر، رغم تعددها على الورق.

الحزب يرأسه الصديق المهندس محمد خالد الغويل، ويضم نخبة من الوطنيين. وكونه حزباً سياسياً، لم يقف حائلاً بينه وبين الخوض في القضايا الثقافية، من خلال برنامج ثقافي توعوي قائم على محاضرات أسبوعية، تقام كل سبت، بمقره بمنطقة قرقارش. يلقيها كتَّاب ومثقفون وأكاديميون وفنانون، يمثلون مختلف ألوان الطيف الثقافي، تتناول قضايا سياسية وثقافية مهمة. وهم جميعاً يستحقون الشكر على ما يبذلونه من جهود.

خلال السنوات الماضية، تابعت شخصياً، عبر وسائل الإعلام الليبية، الكثير من الندوات والمحاضرات، وقرأت العديد من المقالات المهمة ذات الصلة بقضية الهوية. وهي قضية بالتأكيد ملحة ومهمة، ولعل أكثرنا تابع تداعيات انبثاقها، وما صاحب ذلك من جدال وخلافات حادة، عقب انتفاضة فبراير.

وفي رأيي الشخصي، فإن الخلاف الدائر والنقاش حول الهوية الليبية متوقع، ولا يدعو إلى خوف أو خشية، بقدر ما يتطلب وعياً وإدراكاً بأهميته، بعيداً عن الهرج والمرج.

الهوية الليبية، كانت، في رأيي، على مر التاريخ عرضة للمصادرة والمطاردة، ولم تتح لها ما أتيح لغيرها في الدول المجاورة من فرص، بسبب موجات الغزو المتتالية تاريخياً، وما واجهته خلال نصف القرن الأخير من عداء علني حتى صار النطق باسم ليبيا مدعاة للتشكيك في نوايا المرء أمنياً.

«الأشكال والطبوع الموسيقية الليبية – نظرة تحليلية»، كان موضوع الندوة التي أقيمت في دار الفنون. العنوان من دون شك كان لافتاً. وربما لذلك السبب حرصت على الحضور، ولم أندم على ذلك. رئيس الدار الباحث والفنان عازف الناي عبد الباسط بن دله، وفنان العود المبدع هشام عريش تبادلا الأدوار خلالها في توضيح أهداف تأسيس الدار وطموحاتها.

وفي المركز من ذلك تتبع وتجميع وتوثيق الهوية الموسيقية الليبية، «وتقديم رؤية تحليلية للتراث الموسيقي الفني. ودراستها وفهمها، بهدف إعادة صياغتها وأدائها. وتبنت الدار أول عمل يشرح بشكل عملي الهدف من تأسيس الدار، بإعداد دراسة عملية بعنوان تقاسيم في طبوع المالوف الليبي، وهي سبعة طبوع بشكله الخام والأصلي. مع مراعاة أن يكون العمل ليبياً بامتياز». التأكيد على ليبية الدراسة العملية وبامتياز، يأتي في سياق تأكيد هوية ليبية كانت مطموسة، وفي حاجة إلى من ينتشلها من النسيان ويعيدها إلي الحياة.

وكما أن «المال السايب يعلم السرقة» كما يؤكد مثل شعبي ليبي قديم، فإن عدم تجميع وتوثيق الطبوع والأشكال الموسيقية الليبية طوال العقود الماضية، جعلها عرضة للنهب والسرقة. الأمر الذي دفع الغيورين من المتخصصين إلى تلافي القصور، وتأسيس جمعية توثق النتاج الموسيقي، وتسجل ملكيته الفكرية لقطع الطريق على اللصوص.

النقاش الذي أعقب ذلك، لم يكن حقيقة في مستوى القضية المطروحة، والطموح المشروع. لكني شخصياً سعدت بما أتيح لي من معلومات خلال زمن الندوة القصير، مما زاد في يقيني بأنه في الإمكان أبدع مما كان.

محاضرة الأستاذ منصور بوشناف كانت عزفاً آخر على نفس المقام، أي حول الهوية الليبية وتحولاتها عبر التاريخ، حيث عاد بوشناف إلى شغفه بالبحث في التاريخ الليبي القديم، ورصده لما ساد فوق الأرض الليبية من حضارات، وما تركت وراءها من رموز وآثار، بإمكانها، في رأيه، أن تكون الأساس الذي يجمع المكونات الاجتماعية الليبية المختلفة في هوية ليبية واحدة. بوشناف ركز على تاثير التغيرات الاجتماعية والسياسية على الهوية وما تسبب فيها من تحولات.