Atwasat

إشكالية الديموقراطية في رواية

عمر أبو القاسم الككلي الأحد 14 مايو 2023, 04:57 مساء
عمر أبو القاسم الككلي

العمل الإبداعي، وحتى العمل الفكري، قابل للدخول إليه من أكثر من مدخل والتعاطي معه من أكثر من زاوية. ويبدو لي أن أي عمل يرفع راية الإبداع لا يتيح هذه الإمكانية يعتبر خاليا من الإبداع. ونحن لا نعني هنا أن هذه المداخل وتلك الزوايا التي يحوزها عمل إبداعي ما ماثلة في ذهن مبدعه قبل الكتابة ومخطط لها عن سابق وعي وتعمد. فهذا ينطبق على الأعمال، السردية والشعرية، التي تؤلف لغرض تربوي أو نشر رسالة أخلاقية أو سياسية. وإنما نتحدث، في مثل هذه السياقات، عما يتيحه العمل الإبداعي نتيجة تفاعل عناصره الداخلية مع بعضها، من جهة، وتفاعل القاريء المتنبه الحساس مع معطيات العمل وإمكاناته، من جهة أخرى. ما نعنيه هنا هو قابلية العمل الإبداعي لتعدد "القراءات" سواء من قبل نفس القاريء أو من قبل قراء متعددين.

من هذه المنصة نعود إلى قراءة رواية "رحيل آريس" التي كنا قد أنجزنا بصددها قراءة سابقة بعنوان "الجسد السردي والنخاع المسرحي: قراءة في رواية ‘‘رحيل آريس‘‘"**.

تتعلق قراءتنا الحالية بإشكالية الديموقراطية في هذه الرواية.

كما أبنا في قراءتنا السابقة، تعد هذه الرواية، بما أن أحداثها مسرودة، أو مروية، بضمير المتكلم، رواية سيادة الصوت الواحد. وسيادة الصوت الواحد تتنافى مع مبدأ الديموقراطية. ونحن، نظريا، لا نأخذ ما ترويه هذه الشخصية، أو ما يسرده هذا الصوت، سواء عن نفسه أو عن آخرين، مأخذ التصديق. فثمة، ودائما من الناحية النظرية، احتمال بأنه قد يكون تلاعب بما يرويه من أحداث، فحذف منها وأضاف إليها وعدل فيها وفق رغباته ومقتضيات دوافعه الشخصية الماثلة وراء ما يرويه. والرواية، أية رواية، بصفة الرواي هذه، تتقاطع في هذه النقطة، مع السيرة الذاتية***، حتى ولو كانت هذه الأخيرة مروية بضمير الغائب.
وفي رواية "رحيل آريس" لدينا ما يعزز هذا التحفظ لأن موسى، الشخصية التي تقبض على مقاليد القص جميعها، كان من الرجالات الفاعلين المعتمد عليهم النظام السابق في ليبيا المطاح به على أثر هبة شعبية مسلحة.

لكن هذا الصوت الواحد المتمتع بالسيادة في االرواية يورد أحداثا تعبر فيها أصوات أخرى عن رأيها. أي أنه يتيح "هامشا" من الديموقراطية، بالذات للشخصية التي على النقيض منه، وهي شخصية عامر.
وسنكتفي هنا بالتركيز على ما أعتبره مسرحية قصيرة ذات مشهد واحد داخل هذه الرواية.

أثناء وجوده في تونس، في سياق فراره بعد انهيار النظام الذي كان أحد أعمدته الرافعة، يلتقي موسى بعامر، الشخصية المسحوقة التي عانت من عسف النظام، فيجري بينهما حديث يتحول إلى تلاسن ثم يتطور إلى اشتباك بالأيدي، فيقبض عليهما ويودعان التوقيف في أحد مراكز الشرطة. وهناك يجلس معهما ليلا في نفس الزنزانة ضابط شرطة مسؤول في نفس المركز ويؤثر أن يفوت الوقت معهما في الحديث. فيعودان إلى التحاجج والتلاسن من جديد. لكن ضابط الشرطة "الحارس" يقترح عليهما أن تتاح الفرصة لكل منهما في أن يعبر عن رأيه بحرية دون مقاطعة الآخر. وينتهي المشهد المسرحي بتأييد الضابط لحجج عامر ومواقفه.

يمكن اعتبار صوت عامر في هذا المشهد اختراقا وكسرا لصوت موسى السائد، وأنه شكل من أشكال الديموقراطية. لكنها ديموقراطية تمارس ليلا (في بقعة ضوء صغيرة محاطة بالظلام) داخل مركز توقيف (= حبس= سجن)، وليس على الملأ، وبرعاية ضابط شرطة (= سلطة قامعة) تحكم في بدايتها ونهايتها. وإذن فهي ديموقراطية شكلية غير مؤثرة.

* فاطمة سالم الحاجي. رحيل أريس. خريف للنشر (د. م)، (د. ت)