Atwasat

بنغازي ورمضان قبل التلفزيون..!

سالم الهنداوي الأربعاء 12 أبريل 2023, 05:07 مساء
سالم الهنداوي

.. في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات لم نكن نعرف التلفزيون ولم نسمع عنه، لا في المدرسة ولا في الجامع ولا في الشارع، كان «كاراكوز بازامه» هو تلفزيوننا الوحيد في المدينة حيث نجتمع صغار الحي أولاداً وبنات لمشاهدة خيالات الكرتون تتحرك في الصندوق على ضوء الشمعة وراء القماش الأبيض، وبأصوات مختلفة تحكي طرائف شخصيات خيالية بروايات «علي بازامه» كحكاية الحمار الذي أكل الزرع، وحكاية الذئب والخروف، وعنترة، وخالتي منّانة، وجن بوكراع، وسواها من الحكايات التاريخية الطريفة.. كنا في تلك الفترة نعيش الخيال مع تلك القصص الكرتونية، كما كنا نعيش ذات الخيال مع حكايات جدّاتنا حتى ننام، وكان إن رأينا ذلك الخيال الذي استقيناه في طفولتنا يتحقّق في أفلام سينما «هايتي» وسينما «الاستقلال» نعود بالحكايات الشيقة إلى صغار الشارع، حيث نتجمّع تحت ضوء عمود الكهرباء نروي لهم قصة الفيلم من بدايته إلى نهايته، والصغار يتحلقون حولنا مندهشين لمغامرات بطل الفيلم، فينامون والشوق لا ينام حتى يطيروا إلى السينما في الليلة التالية.

.. في زماننا ذهبنا إلى السينما قصداً، وتعرفنا إلى أبطال حقيقيين رأيناهم على الشاشة الكبيرة، وهم بعيدون عنا كثيراً ونعرف يقيناً بأننا لن نراهم في حياتنا مطلقاً، ولكننا لم نذهب إلى المسرح قصداً، وإنما عرفناه عندما مررنا به صدفة بجوارنا، ببابه الكبير وشعاره الذهبي بقناع الوجه الضاحك الباكي.. كان المسرح بقربنا يعيش معنا وبيننا، بل كان فينا بشخوصه القريبة، وبحكايات بيئتنا التي تشبه حياة بيوتنا ومناسباتنا وسوقنا وعاداتنا، وهو بالتالي كان الأب التاريخي للكاراكوز ومسرح العرائس ولكل تراث الخيال الإنساني..

.. تعرفنا إلى المسرح البنغازي في مطلع ستينيات القرن الماضي عندما كان اسمه «مسرح الخيشة» وكان يقع في شارع «شهداء آل جعودة» بحي «اخريبيش» جهة البحر، وتحديداً خلف مدرسة النهضة «توريللي» الإعدادية.. وكان يبدو مسرحاً صيفياً للطلبة من أبناء الحي، لكنّ الرغبة قادتنا إلى «المسرح الشعبي» لمشاهدة عروض المونولوج التي يقدمها عمنا رجب البكوش مؤسس المسرح الشعبي في بنغازي وقبله كان أسس «مسرح الشاطئ للتمثيل» بموقعه التاريخي على بحر الشابي بجوار منارة «سي اخريبيش» مع رفاقه مصطفى المستيري وعلي الشعالية وعبد ربه الغنّاي وآخرين.. وقفنا أمام باب المسرح الكبير، ودون ارتباك دخلنا إلى فضائه حيث كان الصوت والصدى، وحيث كانت الكراسي الخشبية تصطف في الفراغ، وهي المرة الأولى التي أتعرف فيها إلى «الممثِّل» وهو «رجب البكوش» بسمرته وطاقيته الحمراء ونظارته الطبية السميكة.. كان منشغلاً في غرفة خلفية يعيد ترتيب ملابس حروب إسلامية وسيوف خشبية كنا رأينا مثلها في الأفلام المصرية بيد «عنتره بن شدّاد» وفي أفلام «السكيرما» الإيطالية بيد «روتشا»، تحسّسنا ملمسها كأنها حقيقية.. اقتربنا منه ودون تردد ساعدناه في نفض الغبار وتخزين الملابس، فشكرنا بقوله: «هكي خلاص، براوا عليكم» وخرجنا مسرورين نسابق الريح في طريق البحر إلى شارعنا نحكي لبقية الصغار عن السيوف الخشبية التي وجدناها في مخزن المسرح..

.. فعلاً لم نذهب إلى المسرح قصداً، فلقد عرفناه صدفة عندما مررنا به ونحن نلعب، ولم نكن نعرف أن في منطقتنا ممثلين حقيقيين كالذين نراهم في الأفلام، فحملنا الشوق لمعرفة أبطاله الذين قد نراهم في الحياة ونعرفهم ونسمعهم ونحكي معهم، بعكس أبطال السينما البعيدين جداً، في مصر وفي روما وفي أمريكا..

.. في الليلة التالية بعد الإفطار مباشرة ذهبنا فريقاً واحداً لمعرفة المسرح، وبعيون متلهفة طرقنا الباب البُنّي الكبير فلم نجد أحداً غير صدى طرقاتنا ووجه القناع الضاحك الباكي على الباب المغلق.. خاب أملنا في رؤية عمّي رجب من جديد، وبرؤية السيوف والملابس الحربية، وفيما كنا عائدين مع شارع «بن عمران» وعند جامع النخلة توقّفنا حائرين بين اللهو في «سوق الجريد» لحين يفتح المسرح، أو اللعب في «الشوكات» أو العودة إلى شارعنا، سمعتُ أحد الصبيان يهمس بإمكانية التسلل إلى المسرح وسرقة السيوف واللعب بها في الوسعاية، لكنّنا أوقفناه عن جنوحه ونهرناه كثيراً، ومن أسفنا على فكرته المجنونة قلنا له «هذا لأنك لم تعرف عمّي رجب البكوش، ولم تشاهد العرق الذي يتصبّب من جبينه وهو يجمع الملابس والسيوف».. وقبل أن نغادر باب الجامع صاح أحدنا «سي رجب سي رجب»، ورأيناه قادماً من بعيد على درّاجته الهوائية ومرّ بنا في طريقه ولم ينتبه إلينا، ولم يدخل المسرح.

.. اعتدنا بعد الإفطار أن نخرج لعالمنا الليلي، بعضنا يأخذ طريقه إلى سوق الجريد، وبعضنا يذهب إلى السينما، وبعضنا يبقى في الشارع تحت ضوء عمود الكهرباء ينتظر عودة البقية للعب «البطش» أو «الطقيرة».. غير أن فضولاً قادنا نحن الثلاثة نحو شارع البحر حيث صوت «الموتوات» الدراجات النارية تجتاح الشارع الكبير وتتوقف عند محل «عوض الفونشة» بائع الدرّاجات وقطع الغيار، كانوا أربعة شباب يقودون أربعة درّاجات نارية كبيرة وجميلة الألوان والفخامة لم نر مثلها من قبل قط، ولا في الأفلام ولا في الأحلام، وكان أشهرهم «بوهادي» و«الحلواتجي» و«الفلّاح».. وهُم ليسوا من أبناء منطقتنا، وإنما يأتون من المدينة من عند «ميدان الشجرة» بشارع الاستقلال وشارع عمرو بن العاص، ليتجمعوا أمام محل «الفونشة» للقاء أصدقائهم من عيال البحر «السمينّو» و«تربل» و«الكواش» و«كرداش»، وكان عوض الفونشة صديق شباب البلاد وهو الشخصية الشعبية المعروفة واللاعب القديم في نادي «النجمة» ومن سكان شارع «عمّوش» المتفرع من شارع الجهاني، ويعرف كل سكان البلاد كباراً وصغاراً.. وقفنا طويلاً نتفرج على الدرّاجات النارية وصوتها الجميل الهادر عندما أقلعت في سباق جهة البلاد، وعمّ السكون المكان.

.. أحدنا انتبه إلى الزحام بين باب «مستشفى الصدرية» وباب «الهوتيل» الشعبي القديم، كان صوت الغناء ينبعث من الداخل مع الضوء والدخان، ورجال بملابس بيضاء غريبة يخرجون ويدخلون بالطبلات و«الزكرة»، أحدهم كان أسمر يرتدي لباس «بوسعدية» ويضحك في المارة وسع شدقيه.. اقتربنا من الباب فإذا به مسرحٌ جديدٌ حطّ بكراسيه قربنا ولم نعلم به.. وقفنا في الزحام عند الباب فرأينا جيراننا أيضاً يمثلون، نعم جيراننا، محمد الفزاني يرتدي زي بوسعدية، ورجب العقوري يرتدي زياً بدوياً، وإبراهيم الخمسي يرتدي زياً تركياً.. يبدو أننا جئنا في نهاية العرض، فانفض الجمهور من أبناء منطقتنا ورأينا جيراننا الممثلين يشربون «القازوزة» ويضحكون على عرض مونولوج محمد الفزّاني.

.. عاتبنا بعضنا على ضياع الفرصة ومجيئنا المتأخِّر لرؤية هذا المسرح الذي لم نسمع به وهو لا يبعُد إلا أمتاراً قليلة عن بيوتنا في شارع «باله»، واتفقنا على أن نكون جميعاً على بابه مبكِّراً في الليلة التالية، لنرى ماذا يخبئ لنا محمد الفزّاني من نوادر في شخصية «بوسعدية».