Atwasat

خطوة معوزة

رافد علي الخميس 06 أبريل 2023, 02:04 مساء
رافد علي

المقولة الفلسفية الرائدة في تاريخ الوعي الإنساني «اعرف نفسك» تواجهنا اليوم بشكل ملح بسبب شيوع حالة التردي المنتشرة ليبياً على الأقل.
رغم جهود وأطروحات الفكر العربي المعاصر، على اختلاف مشاربه، منذ قرنين من الزمن الآن، ما زالت المهمة المعرفية الحساسة للخوض في تفاصيل عِلتِنا الاجتماعية والسياسية لم يكتمل تحقيق نتائجها على أرض الواقع، رغم ملامسة تلك الأطروحات للذات السياسية العربية، في تكوينها وفي كينونتها المبعثرة بين ماضي طوباوي، وحاضر مأزوم تعمه المكابرة والعناد. فالأزمة واضحة وجلية للعيان باستمرار، بل تبدو واضحة على مختلف المواقع بين مسؤولين ومواطنين ومعارضة، فالأزمة في السلطة كما هي في المعارضة وفي المجتمع، وتظل هي ذات الأزمة، رغم تغير المواقع والمراكز بين الأقطاب الثلاثة المذكورة بحكم سُنن الحياة، فالفشل والتأزم هما السمتان البارزتان، وهذا لا يجدي معه الوقوف عند سطح المسائل، بل الغوص عميقاً في تفاصيل الأزمة على مستوى الاجتماع والتاريخ والجغرافيا والسياسة.

الأمر في ليبيا قد يعد جديداً إذا ما انكببنا على فتح دراسة اجتماعياتنا وسياساتنا من منظور علم الاجتماع، بعد كل ما طفح على سطح حياتنا من عنف ومغالبة ومناطقيات وبروز القبليات والجهويات كعناصر أساسية تحرك وتغذي الصدام الأهلي والتأزم السياسي منذ ما يزيد على العقد من الزمن. فالأمر بات يتطلب أن نحوّل أعطابنا المجتمعية لحالة موضوع في مختبرات العلم والمعرفة، ودون التركيز على دائرة التفسير المجزأ؛ بل التركيز على القاعدة السوسيولوجية الشاملة بداعي أن أزمتنا أزمة تاريخية منذ العهد الراشدي، وعلى مدى تاريخ التحارب الأهلي بالحضارة الإسلامية، التي حققت نجاحات باهرة على أصعدة العلم والفن والأدب والفقه، إلا أن الصعيد السياسي يظل هو الجانب الأضعف والتي تبدو اليوم، كحضارة، رهينة حالة الاجترار والجمود السائدة فينا كثقافة وكمجتمع.

نحن اليوم أمة لا تنفق الكثير على حقول العلوم والترجمة، مما جعل من علم الاجتماع أحد الحقول العلمية العاجزة عن لعب دورها الكاشف والتحليلي لمشاكلنا المتراكمة، بل إن واقع الحال يشهد على السجال الفكري والأكاديمي بين السوسيولوجيين العرب أنفسهم، حول مدى حاجتنا لعلم اجتماع عربي يتفاعل مع اجتماعياتنا المعوزة لحالة اشتباك معرفي حيوي وجزئي للكشف عن جذور معضلتنا والعقبات فيها، التي تحول دون حالة المدنية وقيام الدولة.

محمد جابر الأنصاري يستعجب في أكثر من مرة، عبر كتاباته المختلفة، من توجهات اجتماعيين عرب لا يرون ضرورة لعلم اجتماع بكونه حالة «ترف وعبث»، حسب أوصاف أحمد إبراهيم خضر صاحب علماء الاجتماع وموقفهم من الإسلام (لندن- 1993).

رغم ما للعهد النبوي، وسنوات النزول فيه، من وعي سوسيولوجي جلي، يدرك القوى الاجتماعية الحضرية التي كانت بالمدينة، من أنصار وأوس وخزرج، ومن هم في مستواهم، من أهل القرى بمكة والطائف، باعتبارهم أرق قلبا، في حين أن أشباه الحضر وأنصاف البدو أشد فؤاداً، بينما الموغلون في البادية أجلاف، وليسوا أهل انصياع وطاعة لخيلائهم وفخرهم، كما ورد في صحيح البخاري، (حديث رقم 8834)، وكما جاء في تفسير الفخر الرازي لحالة الأعراب ومدى حث الدين الحنيف على التمدن وحمل قيم الإسلام كبديل عن جاهلية تُفرط في حق الله والأرض والعباد.

على جانب أكثر تحرراً أو تقدمية، يقف محمد أركون بدعوته بضرورة الأخذ بالعلوم الاجتماعية لخلق تحليل حقيقي لمشاكلنا لأجل إعادة التأصيل على نطاق البنية الاجتماعية التحتية- كالتكوينات المجتمعية ومدى جاهزيتها للتحضر- والبنية الاجتماعية الفوقية كالعقيدة والقيم والأفكار والنظم. (الأصولية واستحالة التأصيل. ط1. دار الساقي. بيروت).

لا شك في أن اجتماعياتنا السائدة اليوم، بما يسودها من تغول قبلي، واستبداد ممنهج، وفوضى وهالات التقديس للتراث بشكل مجمل، هي من معوقات الحاضر والمستقبل، وأن التأزم السياسي حال دائما دون وجود شجاعة حقيقية تُعلن عن قطيعة مع الاجترار، وأن تُشهر التمسك بالعلم لأجل فتح ملف حقيقتنا مع ذاتنا كمجتمع، وللوقوف على ماهية ديناميكيات اجتماعياتنا حيال الحاضر والتاريخ والجغرافيا، ومدى أثر ذلك على ملمح المستقبل في ذهنيتنا الليبية الراهنة!.

لقد أضحى ضرورياً أن نشرع بالغوص في إشكاليات العقل الليبي (السياسي والاجتماعي) مع الحداثة التي تجعل منا الآن في نظر الآخر -كعرب- حالة جوفاء في عصر مُتغير في مدنيته المؤسسة على العلم والمعرفة، وذهنية متفتحة برصيد إنساني خلاّق، عماده الوعي بذاته، والإدراك لمتطلبات حضوره في هذا العالم.