Atwasat

مزارع سعيد ومحمود وحصاد الشر (2-2)

عبدالله الغرياني الإثنين 20 فبراير 2023, 11:48 صباحا
عبدالله الغرياني


أصابت الخيبة سعيد الذي قرر الهجرة وترك البلاد ليشد رحاله نحو أوروبا، وكان حلمه العمل في مزرعة يثبت من خلالها أنه قادر على منافسة محمود والانتقام منه في المستقبل، وصل لإيطاليا وتحديدا لوسطها، وطلب العمل لدى أحد المزارعين لديه مزرعة لتربية الدواجن وإنتاج الأجبان والنبيذ المعتق في قرية كولودي ببيسكيا، وينعزل سعيد عن محمود، ويبدأ من جديد في العمل.

وبالنسبة له لم يكن شاقا فهو لديه الخبرة الكافية في جميع المجالات داخل المزارع، وتأسس في أشهر المزارع في بلاده «مزرعة الحاج الشريف» الذي ما إن قال لمدير المزرعة الإيطالي «فيتالي» أنه كان عاملا بها حتي قال له «آآآآآوه الحاج الشريف أنا أعرفه فالثمار والإنتاج الذي كانت تنتجه مزرعته وصل إلينا هنا وفرحنا عندما استولى محمود والعمال عليها، لأنهم رغم تميزهم فإنهم جعلوا الإنتاج يختفي تماما من لدينا وأوقفوا التصدير» ثم نظر إلى سعيد الذي اندهش من الكلام، وقال له «هل كنت مع محمود؟» فأجابه بحسرة «نعم»، فرد عليه فيتالي ساخرا منه «هل أنت أحمق حتى تصادروا من الحاج الشريف مزارعه التي تنتج كل شيء ثمين من ثمار وفواكه وخضروات وأجبان ودواجن وتسلموها إلى محمود»، ليرد سعيد: «نحن سلبنا الحاج الشريف ومحمود سلبنا حقنا» فرد عليه فيتالي «لا حق لكم أنتم أخذتم حقوقا ليست لكم فهذه مزارع الشريف وإنتاجه هو الذي جعل المستهلكين يحبونه ويمنحونه مكانته التي سلبتها منه.. انظر الآن أنت هنا مبعد عن بلدك، والشريف مات مقهورا على مزارعه والمستهلكين» فأجابه سعيد «لا تكثر عليَّ فأنا من خلال العمل هنا معك سوف أعمل على تصحيح ما حدث سأعود مزارعا مثابرا وسأرجع لمنافسة محمود واسترجاع كل المزارع وإنقاذها وتلبية رغبات المستهلكين الذين أصبحوا جياعا الآن دون غذاء>>.

دعاه فيتالي: لشراب نبيذ معتق من إنتاج مزرعته وشرب الاثنان معا حتي فقد سعيد وعيه سريعا فهو لم يعتد شراب النبيذ والخمور بشكل عام ليقف فجأة ويردد «سأعود يا محمود لأسترجع كل المزارع أنا حرثتها بيدي» ثم سقط على الأرض وسحبه فيتالي للغرفته التي خصصها له. استيقظ سعيد في الصباح للعمل خرج من الغرفة ليجد فيتالي أمامه قائلا له «صباح الخير يا فيتالي» رد عليه «صباح الخير يا سعيد …. لولا أن أخي ذو مكانه مهمة في البلد لطردتك من هنا» فأجابه سعيد «لماذا يا فيتالي» رد عليه «أنت شيطان زي محمود»، بدأ سعيد العمل سريعا واجتهد فعلا ليثبت أنه فلاح ومزارع مثابر يعمر الأرض لتخرج الخيرات ويأكلها المستهلكون، وبعد مضي سنوات وسعيد مبعد فيها عن بلدته وأهله والأرض التي أحبها، ومزارع الحاج الشريف التي انهارت ودمرت وتأثر بسبب دمارها سكان البلاد، حاول سعيد بشتي الطرق العودة منتصرا على محمود ولكنه لم يفلح، حتى أُبلغ سعيد خبر مقتل محمود متأثرا بجراحه جراء حادث سير تعرض له ومقتل ابنه الذي كان يقود السيارة معه، وأن المزارعين قرروا فورا الانتفاضة على اتباع محمود وسموا حراكهم باسم «انتفاضة المزارعين»، عاد سعيد منتصرا ومتقدما الصفوف ومخاطبا الحشود، بأنه كان ضد محمود وما قام به، وعلينا أن نعود من جديد إلى ترتيب المزارع لتنتج الخيرات والثمار وأطيب الألبان للمستهلكين، لقد كنت دائما مزارعا وفيا للأرض التي زرعتها بيدي وتركتها عندما أفسدها محمود. دعونا نعمل>>.

تحمس الجميع وقالوا بصوت واحد «نحن معك يا سعيد انطلق»، ليبدأ سعيد في ترتيب المزارع وتعديل الإنتاج وتنويعه كما يريد المستهلك، ولكن في المقابل رفض المستهلكون منتجات المزارع الجديدة، وأصبح سعيد في حيرة من أمره حتي استعان بالمقربين السابقين من محمود، وطلب منهم المساعدة في إدارة المزارع وساعدوه فعلا بنجاح على تعديل النظام والإنتاج ليتكيف معه المستهلك وسارت الأمور بشكل معتدل وارتاح سعيد الذي نجح في أخذ المزارع، وفي إحدى الليالي قال له أحد الذين استعان بهم «يا سعيد لقد ظلم المستهلكون صديقنا محمود، فأنت اليوم تسير على خطط إنتاجية مماثلة، فلماذا ظلمتم محمود»، فرفع سعيد يديه ودعا لمحمود بالرحمة والمغفرة.

قرر سعيد السفر لإيطاليا في رحلة علاجية ولزيارة مزارع فيتالي في كولودي ببيسكيا، وصل أولا لقصر في العاصمة روما للإقامة به، اعتقد سعيد أنه أستأجر من إدارة المزارع لفترة إقامته، ولكن قال له ابنه (جابر) هذه ملكنا يا أبي فرد عليه «من أين كل هذه الأموال؟. هل المزارع تدخل كل هذه الأموال علينا» فأجابه جابر «نعم وأكثر فقط سلم لي هذا الأمر يا أبي»، دخلت البهجة قلب سعيد الذي شعر بمدى سعادة ابنه الذي حُرم في طفولته كثيرا بالأموال والقصر الذي امتلكه في روما.. سعيد يحب ابنه جابر كثيرا أكثر من إخوانه الآخرين، وبعد إجراء الكشوفات الطبية الأولية طلب سعيد من جابر الذهاب لزيارة فيتالي قبل ظهور النتائج، وفعلا ذهبا ووجد سعيد صديقه فيتالي مريضا وعلى فراش الموت وغير قادر على الحديث، ولكنه ابتسم وقال له «أنت اليوم معك شيطان آخر» ضحك سعيد وودع فيتالي وشكره على معروفه معه قديما، خرج سعيد ووجد مزارع فيتالي كما هي، ولكن تفرعت منها مزارع كبيرة تغذي أغلب القارة الأوروبية، غادر ليعود إلى روما لرؤية نتائج الكشوفات ليخبره الدكتور بأنه يعانى من مشاكل صحية حرجة تتطلب بقاءه في المستشفى، شجع جابر قرار الدكتور في بقاء والده حتي الشفاء ليعود هو لإدارة المزارع، وبعد مضي شهرين توفي سعيد بنفس المستشفى، وتقرر دفنه في إيطاليا ليعلن ابنه للعمال والمستهلكين أنه من سيدير المزارع، ولكن بعد مضي عام التحق جابر بأبيه هو الآخر، متأثرا بجراحه إثر حادث سير تعرض له.

وبقيت مزارع الحاج الشريف التي كانت تنتج أجود الثمار والخضار وأفخم الأجبان وألذ الألبان إلى مزارع تنتج كل شيء رديء وملوث وغير صحي، ويأكلها المستهلكون الذين لا حول لهم ولا قوة، ويدفعون ثمن الاستيلاء بالقوة على المزارع والتحكم في إدارة إنتاجها حسب مصلحة الذي يستولى عليها. مات الحاج الشريف ومحمود وسعيد وحتي جابر جميعهم ومن سيأتي من بعدهم سيموت، وستبقى الأرض فقط التي ستحتاج لمن يحرثها ويزرعها ويخرج الخيرات لينعم بها المستهلكون، وهذا يريد أناسا مجتهدين أمثال (الحاج الشريف) وليس مثل محمود وسعيد وجابر ومن سيأتي مثلهم، فهؤلاء انتهازيون وأشرار لا يحصدون إلا الشر من الأرض يطعمونه للناس ويظلمونهم، هكذا تحدث التاريخ وسيتحدث المستقبل.