Atwasat

تونس النموذج من حال إلى حال

أحمد الفيتوري الثلاثاء 13 ديسمبر 2022, 12:57 مساء
أحمد الفيتوري

إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر، هذا بيت شعر "أبو القاسم الشابي"، الذي تحول إلى لازمة شعرية تلهج بها الألسن، عند اللحظة التاريخية الاستثنائية التي عُرفت بالربيع العربي (2011م)، وعلى الأخص في بلاده تونس، ما اعتبرت أنها نموذج تلك اللحظة، فأصبح بيت الشعر الشابي أيقونة لثورة تونس، ما حملت لقب ثورة الياسمين يناير 2011م، ومن أثرها منحت منظمات تونسية جائزة نوبل للسلام، أي أن تونس عقب ثورتها اعتبرت النموذج الاستثنائي، في تاريخها وتاريخ المنطقة، وحتى العالم حيث توجت بالجائزة العالمية، لقد تحولت تونس إلى نموذج ناجح للثورة، ومن ثمة للديمقراطية الوليدة، وفي ذلك دبجت مقالات، بحوث ودراسات، عقدت ندوات ومؤتمرات، ثم صدرت كتب بلغات عدة.

عليه، الذي قد يكون مرده إلى أن النجاح بدا وكأنه محقق، وأن كل العلائم المعقولة تشير إليه، فالتوازن صبغ التحول التونسي، والعقلانية بدأت نهج هذا التحول، ما هو أمر استثنائي تاريخي لا شك في ذلك، ومنه صار نموذجا حث على اهتمام مميز وتركيز ظاهر، وككل ظاهرة مميزة، شابها منذ اللحظة الأولى عوائق وارتكاس هنا وهناك، لكن ذلك اعتبر من طبائع الأمور المماثلة، فالثورات عند مبتدئها يلجلج خبرها، والديمقراطية الوليدة الناجحة، كما طفل يكبر بالزمن ويقوى عوده، ولكي يمشي لابد أن يقع.

هكذا في ظني تم تجاوز المؤشرات، التي ظهرت بعد إسقاط "نظام بن علي"، ومن ثم رجع إلى تاريخ تونس للبحث عن مرتكزات لهذا النجاح، وعليه تم الفصل بين النظام الذي أسقطته إرادة الشعب، وبين النظام السابق البورقيبي، الذي حول إلى نموذج لمسببات النجاح وليس لعوائقه، فـ "الحبيب بورقيبة" الأب المؤسس المجاهد الأكبر من أجل الحرية، باني تونس ومشرّع دستورها مانح النساء حرية غير مسبوقة...

إلى آخر ما أسبغ من مبررات ومسوغات على النجاح المفارق، عندئذ كانت المنطقة تغوص في حروب أهلية، وتموج في أجواء إرهابية، وتغطس في انتكاسات متعاقبة، فظهر عندها أن بيت شعر "أبو القاسم الشابي": "إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" لازمة تونسية محض.

ما مضى مضى لكن لا عقل دون ذاكرة، تلك الحالة تجاوزتها الأحداث، فحال تونس ليس ذاك الحال، تونس ذهبت مذهبا وحالا ليس مختلفا وحسب، بل وعلى خلاف مع تلك اللحظة الاستثنائية.. وبالتالي فقد توضح بشكل جليّ، أن المقاربات السابقة، لم تتفطن ولم تقارب الحاصل، ومن ثم لم تتوقع البتة الحاصل هذه الساعة، فتونس اليوم بكل ارتكاساتها وعوائقها.

ما تستحق مراجعة ما حدث كي تتبين ما يحدث، تونس اليوم النموذج الصاعق الذي يستلزم الدرس والبحث، ليس باعتباره انتكاسة لمنشود ما، بل لأن تونس كما كانت مرآة اللحظة الاستثنائية، التي أطلق عليها "الإعلام الغربي" اسم "الربيع العربي"، مازالت مرآة لتلك اللحظة التاريخية، التي ما حدث قبل مقدماتها، وما يحدث اليوم محصلتها، وليس نتائجها التي لم تَبِن بعد، فالقدر لم يستجب وإرادة الشعب لم تغب، أو كما يوكد الشاعر/ النبي: لن تغيب.

تونس من حال إلى حال مازالت نموذجا، فتونس التاريخ والجغرافيا النموذج للدولة الصغيرة الحديثة، في الجغرافيا بنت المتوسط والصحراء، وفي التاريخ أنشأها الفينيقيون ومنذها لم تغب مرة عن التاريخ، هذا مرتكز رئيس في أن تونس في حالها الحالي، مرآة ساطعة لسؤال رئيس: هل يمكن إقامة دولة حديثة بمقوماتها المعروفة في عصر ما بعد الاستعمار، دولة صغيرة يتمكن مواطنوها من العيش في العصر بمقوماته؟، هل يمكنها بإمكانياتها الخاصة المحدودة أن تكون؟.

وإن لم يكن ذلك ممكنا، آخذين في الاعتبار الجغرافيا والتاريخ في الحسبان، فهل تونس ملزمة بما ظهر لها في القرن التاسع عشر من عجز؟، بحث فيه ووضحه خير الدين التونسي مفكرها ورئيس وزرائها يومها، الذي قال مما قال: لقد تغير اليوم، أحوال حياة الأمم، عندما كانت العلاقات الدولية، أقل توترا وأقل سهولة، كان يمكن حدوث خراب الأمير وشعبه، دون المساس بأمن الدول المجاورة ومصالحها...".

تونس منذ ساعة ياسمينها تغرق في ضائقة اقتصادية سياسية، كل يوم وكل ساعة تضيق حلقاتها، حيث الشح في الدواء كما الخبز والماء، وقد أغلقت في وجهها السبل، فالجغرافيا البرية مغلقة، أي أن الدول المجاورة تغوص في بحر مشاكلها، من حروب وآثارها في الجزائر ثم ليبيا، ومن الناحية البحرية لنأخذ مستعمِرتها السابقة مثالا، أقصد فرنسا، التي تقوم بتقنين الكهرباء في هذا الشتاء الزمهرير! إذًا تونس حالها حال بلاد محاصرة، في داخلها حرب أهلية باردة وساخنة في محيطها، فهل يتسنى لأحد أن يظن أن الصندوق/ الانتخابات عابر للمعضلات؟...

وحتى إن كان مطبخ "زوَّالي" فقير تونسي، لا يتمكن من قوت يومه، قد عصفت به عواصف روسيا في أوكرانيا، فإن هذا عند كثير من مفكري اللحظة مشكل يخص ذاك التونسي، ومن هذا فشعارهم الساعة أن الحل تونسي- تونسي، وعند المسئولين في تونس وغيرها من البلدان المشابهة، أن المشكل من لوازم المشكل الدولي. وعليه يتدحرج هذا المواطن بين هذا وذاك، كالكرة في ملعب عالم، كل من فيه يرمي الكرة إلى الآخر.