Atwasat

3- التعليم المبكر في زمن الفدرالية

محمد عقيلة العمامي الإثنين 24 أكتوبر 2022, 12:19 مساء
محمد عقيلة العمامي

سنة 1947، كان عمري عاما واحدا، حينها وصلت الباخرة فوزية التي بعثها الملك فاروق، وكانت مملوءة بالقمح والشعير والفول والحمص والعدس وزيوت الأكل، مع أطباء إلى ميناء بنغازي، واستقبلها أعيان بنغازي ووقف شاعر الوطن أحمد رفيق المهدوي، وأنشد قصيدة مطلعها:
(عليك يا مصر بعد الله نعتمد *** أنت الغوث والرجاء والأمل).

وهكذا كان الحال إلى ما بعد إعلان استقلال ليبيا في ديسمبر 1951 استمرت أزمتها المالية، حتى إن ليبيا، وأنا شاهد على أننا في بنغازي كنا نتعامل بالنقد المصري!

وأعلنت الأمم المتحدة أن ليبيا ثالث أكثر دول العالم فقرا! وحاولت الاقتراض من عديد الدول، ولكنها لم تتحصل على شيء، سوى (هبة) وليس سلفة من دولة غانا في عهد الرئيس نكروما، قدرها 250 ألف جنيه إسترليني. ومن الدول العربية لم تنل ليبيا شيئا سوى قرار الرئيس جمال عبدالناصر بعد سنة 1952 بتولي مصر إعارة مدرسين إلى ليبيا وتتولي مصر دفع مرتباتهم. ولم تجد ليبيا للخروج من مغبة أزمتها، سوى الموافقة على تأجير قاعدة الملاحة إلى أميركا، بعد موافقة برلمان ليبيا يوم 30 أكتوبر 1954، على الرغم من كثيرة الأصوات المعارضة. كل ذلك يبيِّن الحالة الاقتصادية البائسة.ومع ذلك، وعلى الرغم من هذا الفقر المُدقع، وجلوسنا على مقاعد من علب الصفيح في مدرسة (لوتوجروبا) التي أصبحت في ما بعد نظارة للمعارف وانتقلت مدرستنا إلى مدرسة الأمير. وهناك، من بعد رشنا بمسحوق الـ (D.D.T) كان يوزع علينا التمر والجبن، وأرغفة طرية، نضعها وسط خبزنا الجاف المعد من الشعير دون سواه! ومن مساعدات الأمم المتحدة، تُفصل وتحاك ملابسنا من أقمشة زكائب مساعدات النقطة الرابعة، وكانت (الخياطة الشاطرة) هي تلك التي تخفي صورة الكفين المتصافحتين أسفل عبارة مساعدات النقطة الرابعة المتصافحتين، وتجعلهما لمنطقة السروال المخفي تحت القميص!

وكنا في ذلك الزمن أطفالا ننطلق نحو المنزل الذي تعلو منه ولولة النسوة، وصراخهن معلنة وفاة أحد أفراد الأسرة، لأنهم سوف يقدمون صدقة رحيله نحو المقبرة، وكانت خبز دقيق أبيض مغمور بزيت الزيتون، ننطلق بها نحو بيوتنا لترش عليه أمهاتنا القليل من السكر. كان ذلك وليمة باذخة، ننزوي بها في ركن قصى، ونمضغها بمتعة!
كان فقرا، ولكنه باسم! حتى إننا كأطفال كنا نتصارع من أجل نيل عظمة فك الخروف، التي تنتهي منظفة تماما من أي رائحة من لحم الرأس. لنستعملها كمسدس في لعبة (الكاوبوي) الأميركي، من بعد غداء يوم الجمعة الباذخ، الذي كانت أمهاتنا تزين سطح الكسكسو، بشقف من لحم الرأس، أو كوارع الخروف، وفي المناسبات المباركة جدا مئة جرام من أي لحم كان. أذكر وكأنها الليلة، عندما قدمت والدتي صحن رز جارٍ بالقديد، ليلة عيد الأضحى، وفي ما كان "حولي" العيد يلعب مع قطتنا! قالت لوالدي: (صحتين يا عقولة إنها آخر ملعقة من أضحية العام الماضي!).

ومع ذلك كان التعليم مجانيا، وليس من وسيلة تُخرج المرء من مغارة الفقر سوى التعليم، ولم تبخل حكومة برقة الفدرالية عليه بشيء بل دعمته بالوسائل كافة. وكان المجال مفتوحا على مصراعيه للمتفوقين، دون سواهم، فما إن تنتهي السنة الدراسية الثانوية حتى ينتظر طلاب الشهادة التوجيهية، ومن بعدها تسمت بالثانوية أسماء العشرة الأوائل، ومهما كان وضعهم الاجتماعي، ومستواهم الاجتماعي، ومن دون تفضيل طالب على آخر، المتفوقون فقط هم الذين يوفدون لدراسة مختلف التخصصات في عواصم العالم المتقدم والأوربي. لا أحد يستطيع أن يقول إنه خلال الحكم الفدرالي كان هناك ضيم وقهر وكيل بمكيالين.

كشاهد عيان عاصرت عودة عدد من المتفوقين في المرحلة الثانوية، كانوا قد أُوفدوا للدراسات الجامعية في الخارج، وشهدت تسلمهم لمناصبهم، وعملت تحت إمرتهم، منهم المهندس المرحوم فتحي جعودة، عاد من القاهرة مهندسا، وتسلَّم مهامه وكيلا لنظارة الأشغال، وتولى مهام ناظرها، ومن بعد ذلك بقيل، وزيرا لها عندما تم إلغاء النظام الفدرالي، وأذكر وأعرف عددا من المشاريع والأعمال ُنفذت تحت إشرافه، وفي تقديري أنه من أفضل قراراته السماح للموظفين أو العمال أو الفنيين، الذين وصلوا المرحلة الجامعية، عبر دراسته المسائية، بحضور محاضراتهم، وتكليفهم أعمالا بسيطة، وغالبا في الفترة المسائية، وإعفائهم من الدوام أثناء أسبوع الامتحانات، وكذلك فعل أمثاله من الخريجين المؤهلين الذين تولوا مناصب قيادية في نظارة الأشغال، أثناء المرحلة الفدرالية، وفي ما بعد في أثناء مرحلة إلغاء النظام الفدرالي، كان منهم المهندس طه الشريف بن عامر، والمهندس سامي الجربي، والمهندس فتحي الجهمي.

أما المهندس محمد المنقوش فقد عملت تحت إمرته من بعد أن خلف المستر آدم، وأصبح كبير مهندسي المياه. وهو كان مرفقا استراتيجيا ومهما للغاية، ولذلك بحث عن كافة من يعرفون شبكة المياه في بنغازي، وعرفوا مواقع خطوطها المعدة أساسا من العهد الإيطالي، والتي تواصلت صيانتها أثناء الإدارة البريطانية. اهتم بالمهنيين وكلف عددا منهم بمناصب قيادية، وجعل منهم مستشارين له لا يقوم بعمل من دون مشورتهم، كان رأسهم عمير زوبي الذي جعل منه مساعدا له، ثم مفتاح الفلاح، الذي كلفه رئاسة خزان تزويد بنغازي بالمياه وآخرون منهم طيب الذكر عقيلة عبدالسلام الفلاح، والحاج محمد عبود، وكان تحت إمرتهم عديد الفنيين. الحديث عن المرحوم محمد المنقوش يحتاج إلى مساحة أكبر سوف نتناولها الأسبوع المقبل.