Atwasat

مدرسة الصابري

أحمد الفيتوري الثلاثاء 27 سبتمبر 2022, 12:55 مساء
أحمد الفيتوري

كنا نسكن على شاطيء البحر بحي الصابري، ولاعتبار أن بنغازي مدينة تحت مستوى سطح البحر، فإن الشتاء يعني غرق البيوت، التي على الشاطيء، مرة أو أكثر. فيخرج ساكنوها تحت ضوء البرق مهرولين، الماء يتجاوزني، درجة أكاد أغرق فيه، فيحملني أبي على ظهره، مما يزيد من رعبي سياط الرعد، فأرتعد ومياه المطر تنسكب، من السماء ومن ميزاب البيت تغسلنا. هذا ما يفعله أبي لحمايتي ومواجهة غضب البحر، كثيرا ما فعله عندما التحقت بالمدرسة، حملني أيضا على ظهره ثم في سنة ثانية حمل أختي، وفي الحالين ما فعل، عنده ذود عن حياة ذريته عن حياته.

الصابري عرجون الفل/ الصابري عمره ما ذل
الصابري ورد وياسمين/الصابري زين على زين
حي الصابري، حي شعبي، سكنه مهاجرون فقراء، من غرب وجنوب ليبيا، وبدو من أطراف مدينة بنغازي. لكن الأهم، سكانه من أصل أفريقي، من بهم يُعد الصابري، مركزا للفن الشعبي، ومنه ما عرف بـ «المرزكاوي». ومن الحي، كان أشهر الليبيين، في الفنون الموسيقية والغناء، وفي الآداب والثقافة، والرياضة والسياسة.

ولهذا كنت محظوظا، بأن أكون من سكان حي كهذا. وأن يهاجر أهلي، من مدينة زليتن في الغرب، إلى بنغازي وفي حي الصابري، ما كان يعج أيضا بالطرق الصوفية، فكنت في صباي تربيت في الزاوية الأسمرية، لاعتبار أني من أصول صوفية، فجدنا الأكبر شيخ شهير معروف، في المغرب العربي ومصر والسودان: «عبد السلام الأسمر».

غدوت تلميذا، في دولة المملكة، التي كان فيها التعليم إلزاميا. وقد كنت أول فرد في أسرتي، يفك الخط أي يمحو أميته. فأبي الأمي، حريص على التعليم، والدولة فقيرة الموارد، حريصة أيضا، وأما المدرسون، فقد اعتبروا أنفسهم، رواد نهضة، نحن فيها الجيل الصاعد. من هذا في المدرسة الابتدائية، وجدت حرص المعلمين، منهم «إبراهيم السحاتي»، من صار فيما بعد نقيب المعلمين الليبيين، ثم نقيب المعلمين العرب. هذا المعلم «إبراهيم السحاتي»، جعلني رئيسا لتحرير جريدة حائطية في السنة الخامسة الابتدائية، أذكر اسمها «الشروق»، وكنت أكتب فيها، بمساعدة معلمي ومراجعته، هو المعلم القومي العربي، المعارض للنظام الملكي، من أسهم في تأسيس نقابة المعلمين.

وقبل أن أجيء المدرسة، أنشأت مكتبتي الأولى من الصور، من أثر شرائي أو حصولي كهدية، اللبان الحلو «المستكة»، المرفقة بصورة لفنان أو فنانة، من المشهورين مطلع الستينيات في السينما العربية والأميركية، وقد أغنيتُها بالصور من اللعب، والمقامرة بالصور، ثم المقايضة، فالاستعارة، ما لا أُرجع، وحتى السرقة من الأطفال الآخرين.

أليست الأحرفُ صورا؟، لذا ما إن فككت الخط في الجامع والمدرسة، حتى طفقت في جمع مجلات الأطفال ثم كتبهم، وبعد أن كانت مكتبة الصور من الكرتون، أظن كرتون حليب «كارنيشن» لقوته، فإن مكتبة المجلات أنشأتها من صندوق خشب التفاح اللبناني، ما كان أبي يبيعه في دكانه، وعندئذ في العطلة المدرسية، جعلني أبي صبي النجار جاره وصديقه، فأجريت تعديلات صبيانية في الصندوق.

للكتاب بيت، أو غرفة كما لي، ولم أقبل البتة أن يسوح دون مأوى كالعقل الطائش، لذا شرعت في تجليد كتيباتي ومجلاتي، من الورق الملون والمقوى، ووضعتها في المكتبة، وباعتبار أني الابن البكر لأبي، فقد جعلني أنام مفردا في «المربوعة» غرفة المضافة، لي سرير وبجانبه مكتبتي ما كانت أيضا بمثابة «الكوميدينو»، وبعد فترة وإثر نجاح مميز لي في المدرسة، أشترى لي طاولة كبيرة «فورمايكا» ما تعد غالية الثمن، لكن لم يجلب كرسيا!، فجعلني أستخدم المكتبة لمآرب عدة كعصى موسى.

ثم من جانب آخر أبي التاجر، جعلني منذ الطفولة، أذهب فجرا معه لدكانه لمساعدته، حيث كنت الابن الأول له والذكر، وهو الأمي كان محبا للعلم، لهذا يمنحني القروش، لشراء مجلات الأطفال، كمجلة «سمير» المصرية، و«سوبرمان» اللبنانية، و«الليبي الصغير» التي كانت ملحق مجلة «ليبيا الحديثة». وأيضا كان لي، زملاء في المدرسة مثلي، شغوفون بالقراءة ثم الكتابة، مثل من كتب الشعر «محمود العرفي»، والمخرج المسرحي «داوود الحوتي». وكان ناظر المدرسة «فتحي الجدي»، من درس في الجامعة الأميركية ببيروت، خير معين لنا، مع مدرس اللغة العربية اللبناني «عيسى التهامي».

المدرسة أول معلم مسرحي، ثم هناك مهرجانات مسرحية مدرسية. ومن هذا فإن صديقي الراحل «إدريس المسماري»، مثّل طفلا في مسرحية لـ «يوسف وهبي»، عميد المسرح العربي كما يلقبه المصريون عاشقو الألقاب، من جاء بنغازي بفرقته، ولم يحضر طفلا معه طبعا. كذلك كان صديقي «داوود الحوتي»، تلميذا للممثل المصري عمر الحريري، من عمل بفرقة «المسرح الشعبي» ببنغازي. ومن هذه الأجواء، أضحى كاتبي المفضل «توفيق الحكيم»، عن باقي الكتاب المصريين والعرب، فقرأتهُ صبيا. وفي مقتبل العمر ذاك كان أمام جيلي طريقان: الفن والرياضة.